الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال الشيخ رحمه الله " نكاح الزانية " حرام حتى تتوب سواء كان زنى بها هو أو غيره . هذا هو الصواب بلا ريب وهو مذهب طائفة من السلف والخلف : منهم [ ص: 110 ] أحمد بن حنبل وغيره وذهب كثير من السلف والخلف إلى جوازه وهو قول الثلاثة ; لكن مالك يشترط الاستبراء وأبو حنيفة يجوز العقد قبل الاستبراء إذا كانت حاملا ; لكن إذا كانت حاملا لا يجوز وطؤها حتى تضع والشافعي يبيح العقد والوطء مطلقا ; لأن ماء الزاني غير محترم وحكمه لا يلحقه نسبه . هذا مأخذه . وأبو حنيفة يفرق بين الحامل وغير الحامل ; فإن الحامل إذا وطئها استلحق ولدا ليس منه قطعا ; بخلاف غير الحامل . ومالك وأحمد يشترطان " الاستبراء " وهو الصواب ; لكن مالك وأحمد في رواية يشترطان الاستبراء بحيضة والرواية الأخرى عن أحمد هي التي عليها كثير من أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه أنه لا بد من ثلاث حيض والصحيح أنه لا يجب إلا الاستبراء فقط ; فإن هذه ليست زوجة يجب عليها عدة وليست أعظم من المستبرأة التي يلحق ولدها سيدها وتلك لا يجب عليها إلا الاستبراء فهذه أولى .

                وإن قدر أنها حرة - كالتي أعتقت بعد وطء سيدها وأريد تزويجها إما من المعتق وإما من غيره - فإن هذه عليها استبراء عند الجمهور ولا عدة عليها .

                وهذه الزانية ليست كالموطوءة بشبهة التي يلحق ولدها بالواطئ ; مع أن في إيجاب العدة على تلك نزاعا .

                وقد ثبت بدلالة الكتاب وصريح السنة وأقوال الصحابة : أن " المختلعة " ليس عليها إلا الاستبراء بحيضة ; لا عدة كعدة المطلقة وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقول عثمان بن عفان وابن عباس وابن عمر في آخر قوليه .

                وذكر مكي : أنه إجماع الصحابة وهو قول قبيصة بن ذؤيب [ ص: 111 ] وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وغيرهم من فقهاء الحديث .

                وهذا هو الصحيح كما قد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر . فإذا كانت المختلعة لكونها ليست مطلقة ليس عليها عدة المطلقة بل الاستبراء - ويسمى الاستبراء عدة - فالموطوءة بشبهة أولى والزانية أولى .

                وأيضا " فالمهاجرة " من دار الكفر كالممتحنة التي أنزل الله فيها : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية .

                قد ذكرنا في غير هذا الموضع الحديث المأثور فيها وأن ذلك كان يكون بعد استبرائها بحيضة مع أنها كانت مزوجة ; لكن حصلت الفرقة بإسلامها واختيارها فراقه ; لا بطلاق منه .

                وكذلك قوله : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } فكانوا إذا سبوا المرأة أبيحت بعد الاستبراء والمسبية ليس عليها ( إلا الاستبراء بالسنة واتفاق الناس وقد يسمى ذلك عدة .

                وفي السنن في حديث { بريرة لما أعتقت : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تعتد } فلهذا قال من قال من أهل الظاهر كابن حزم : إن من ليست بمطلقة تستبرأ بحيضة إلا هذه . وهذا ضعيف ; فإن لفظ " تعتد " في كلامهم يراد به الاستبراء كما ذكرنا أتبع هذه وقد روى ابن ماجه عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد بثلاث حيض } فقال كذا لكن هذا حديث معلول [ ص: 112 ] أما " أولا " فإن عائشة قد ثبت عنها من غير وجه أن العدة عندها ثلاثة أطهار وأنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة حلت فكيف تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمرها أن تعتد بثلاث حيض

                والنزاع بين المسلمين من عهد الصحابة إلى اليوم في العدة : هل هي ثلاث حيض أو ثلاث أطهار ؟ وما سمعنا أحدا من أهل العلم احتج بهذا الحديث على أنها ثلاث حيض ولو كان لهذا أصل عن عائشة لم يخف ذلك على أهل العلم قاطبة .

                ثم هذه سنة عظيمة تتوافر الهمم والدواعي على معرفتها ; لأن فيها أمرين عظيمين " أحدهما " أن المعتقة تحت عبد تعتد بثلاث حيض . " والثاني " أن العدة ثلاث حيض .

                وأيضا فلو ثبت ذلك كان يحتج به من يرى أن المعتقة إذا اختارت نفسها كان ذلك طلقة بائنة كقول مالك وغيره وعلى هذا فالعدة لا تكون إلا من طلاق ; لكن هذا أيضا قول ضعيف .

                والقرآن والسنة والاعتبار يدل على أن الطلاق لا يكون إلا رجعيا وأن كل فرقة مباينة فليست من الطلقات الثلاث حتى الخلع كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع .

                والمقصود هنا الكلام في " نكاح الزانية " وفيه مسألتان " إحداهما " في استبرائها وهو عدتها وقد تقدم قول من قال : لا حرمة لماء الزاني .

                يقال له : الاستبراء لم يكن لحرمة ماء الأول ; بل لحرمة ماء الثاني ; فإن الإنسان ليس له أن يستلحق ولدا ليس منه وكذلك إذا لم يستبرئها وكانت قد علقت من الزاني .

                وأيضا ففي استلحاق الزاني ولده إذا لم تكن المرأة [ ص: 113 ] فراشا قولان لأهل العلم والنبي صلى الله عليه وسلم قال : { الولد للفراش وللعاهر الحجر } فجعل الولد للفراش ; دون العاهر .

                فإذا لم تكن المرأة فراشا لم يتناوله الحديث وعمر [ ألحق ] أولادا ولدوا في الجاهلية بآبائهم . وليس هذا موضع بسط هذه المسألة . " والثانية " أنها لا تحل حتى تتوب ; وهذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والاعتبار ; والمشهور في ذلك آية النور قوله تعالى { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } وفي السنن حديث أبي مرثد الغنوي في عناق .

                والذين لم يعملوا بهذه الآية ذكروا لها تأويلا ونسخا . أما التأويل : فقالوا المراد بالنكاح الوطء وهذا مما يظهر فساده بأدنى تأمل .

                أما " أولا " فليس في القرآن لفظ نكاح إلا ولا بد أن يراد به العقد وإن دخل فيه الوطء أيضا .

                فأما أن يراد به مجرد الوطء فهذا لا يوجد في كتاب الله قط . " وثانيها " أن سبب نزول الآية إنما هو استفتاء النبي صلى الله عليه وسلم في التزوج بزانية فكيف يكون سبب النزول خارجا من اللفظ " الثالث " أن قول القائل : الزاني لا يطأ إلا زانية أو الزانية لا يطؤها إلا زان ; كقوله : الآكل لا يأكل إلا مأكولا والمأكول لا يأكله إلا [ ص: 114 ] آكل والزوج لا يتزوج إلا بزوجة والزوجة لا يتزوجها إلا زوج ; وهذا كلام ينزه عنه كلام الله .

                " الرابع " أن الزاني قد يستكره امرأة فيطؤها فيكون زانيا ولا تكون زانية وكذلك المرأة قد تزني بنائم ومكره على أحد القولين ولا يكون زانيا .

                " الخامس " أن تحريم الزنا قد علمه المسلمون بآيات نزلت بمكة وتحريمه أشهر من أن تنزل هذه الآية بتحريمه .

                " السادس " قال : { لا ينكحها إلا زان أو مشرك } فلو أريد الوطء لم يكن حاجة إلى ذكر المشرك فإنه زان وكذلك المشركة إذا زنى بها رجل فهي زانية فلا حاجة إلى التقسيم .

                " السابع " أنه قد قال قبل ذلك : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فأي حاجة إلى أن يذكر تحريم الزنا بعد ذلك وأما " النسخ " فقال سعيد بن المسيب وطائفة : نسخها قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } ولما علم أهل هذا القول أن دعوى النسخ بهذه الآية ضعيف جدا ولم يجدوا ما ينسخها فاعتقدوا أنه لم يقل بها أحد قالوا : هي منسوخة بالإجماع كما زعم ذلك أبو علي الجبائي وغيره .

                أما [ ص: 115 ] على قول من يرى من هؤلاء أن الإجماع ينسخ النصوص كما يذكر ذلك عن عيسى ابن أبان وغيره وهو قول في غاية الفساد مضمونه أن الأمة يجوز لها تبديل دينها بعد نبيها وأن ذلك جائز لهم كما تقول النصارى : أبيح لعلمائهم أن ينسخوا من شريعة المسيح ما يرونه ; وليس هذا من أقوال المسلمين . وممن يظن الإجماع من يقول : الإجماع دل على نص ناسخ لم يبلغنا ; ولا حديث إجماع في خلاف هذه الآية .

                وكل من عارض نصا بإجماع وادعى نسخه من غير نص يعارض ذلك النص فإنه مخطئ في ذلك كما قد بسط الكلام على هذا في موضع آخر وبين أن النصوص لم ينسخ منها شيء إلا بنص باق محفوظ عند الأمة . وعلمها بالناسخ الذي العمل به أهم عندها من علمها بالمنسوخ الذي لا يجوز العمل به وحفظ الله النصوص الناسخة أولى من حفظه المنسوخة .

                وقول من قال : هي منسوخة بقوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } في غاية الضعف ; فإن كونها زانية وصف عارض لها يوجب تحريما عارضا : مثل كونها محرمة ومعتدة ومنكوحة للغير ; ونحو ذلك مما يوجب التحريم إلى غاية ولو قدر أنها محرمة على التأبيد لكانت كالوثنية ومعلوم أن هذه الآية لم تتعرض للصفات التي بها تحرم المرأة مطلقا أو مؤقتا ; وإنما أمر بإنكاح الأيامى من حيث الجملة ; وهو أمر بإنكاحهن بالشروط التي بينها وكما أنها لا تنكح في العدة والإحرام لا تنكح حتى تتوب . [ ص: 116 ] وقد احتجوا بالحديث الذي فيه : { إن امرأتي لا ترد يد لامس .

                فقال طلقها . فقال : إني أحبها . قال : فاستمتع بها
                } الحديث . رواه النسائي وقد ضعفه أحمد وغيره فلا تقوم به حجة في معارضة الكتاب والسنة ; ولو صح لم يكن صريحا ; فإن من الناس من يؤول " اللامس " بطالب المال ; لكنه ضعيف .

                لكن لفظ " اللامس " قد يراد به من مسها بيده وإن لم يطأها فإن من النساء من يكون فيها تبرج وإذا نظر إليها رجل أو وضع يده عليها لم تنفر عنه . ولا تمكنه من وطئها .

                ومثل هذه نكاحها مكروه ; ولهذا أمره بفراقها ولم يوجب ذلك عليه ; لما ذكر أنه يحبها ; فإن هذه لم تزن ولكنها مذنبة ببعض المقدمات ; ولهذا قال : لا ترد يد لامس : فجعل اللمس باليد فقط ولفظ " اللمس والملامسة " إذا عني بهما الجماع لا يخص باليد بل إذا قرن باليد فهو كقوله تعالى : { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم } .

                وأيضا فالتي تزني بعد النكاح ليست كالتي تتزوج وهى زانية ; فإن دوام النكاح أقوى من ابتدائه . وإلا حرام أو العدة تمنع الابتداء دون الدوام فلو قدر أنه قام دليل شرعي على أن الزانية بعد العقد لا يجب فراقها لكان الزنا كالعدة تمنع الابتداء دون الدوام جمعا بين الدليلين . " فإن قيل " ما معنى قوله : { لا ينكحها إلا زان أو مشرك } ؟ " قيل " : المتزوج بها إن كان مسلما فهو زان وإن لم يكن مسلما فهو كافر . فإن كان مؤمنا بما جاء به الرسول من تحريم هذا وفعله فهو زان ; وإن لم يكن مؤمنا بما جاء به الرسول فهو مشرك كما كانوا عليه في الجاهلية كانوا يتزوجون [ ص: 117 ] البغايا . يقول : فإن تزوجتم بهن كما كنتم تفعلون من غير اعتقاد تحريم ذلك فأنتم مشركون وإن اعتقدتم التحريم فأنتم زناة . لأن هذه تمكن من نفسها غير الزوج من وطئها فيبقى الزوج يطؤها كما يطؤها أولئك وكل امرأة اشترك في وطئها رجلان فهي زانية ; فإن الفروج لا تحتمل الاشتراك ; بل لا تكون الزوجة إلا محصنة .

                ولهذا لما كان المتزوج بالزانية زانيا كان مذموما عند الناس ; وهو مذموم أعظم مما يذم الذي يزني بنساء الناس ولهذا يقول في " الشتمة " : سبه بالزاي والقاف . أي قال يا زوج القحبة فهذا أعظم ما يتشاتم به الناس ; لما قد استقر عند المسلمين من قبح ذلك فكيف يكون مباحا ولهذا كان قذف المرأة طعنا في زوجها فلو كان يجوز له التزوج ببغي لم يكن ذلك طعنا في الزوج ولهذا قال من قال من السلف : ما بغت امرأة نبي قط . فالله تعالى أباح للأنبياء أن يتزوجوا كافرة ولم يبح تزوج البغي لأن هذه تفسد مقصود النكاح بخلاف الكافرة ; ولهذا أباح الله للرجل أن يلاعن مكان أربعة شهداء إذا زنت امرأته وأسقط عنه الحد بلعانه ; لما في ذلك من الضرر عليه وفي الحديث { لا يدخل الجنة ديوث } والذي يتزوج ببغي هو ديوث وهذا مما فطر الله على ذمه وعيبه بذلك جميع عباده المؤمنين بل وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم : كلهم يذم من تكون [ ص: 118 ] امرأته بغيا ويشتم بذلك ويعير به فكيف ينسب إلى شرع الإسلام إباحة ذلك وهذا لا يجوز أن يأتي به نبي من الأنبياء فضلا عن أفضل الشرائع ; بل يجب أن تنزه الشريعة عن مثل هذا القول الذي إذا تصوره المؤمن ولوازمه استعظم أن يضاف مثل هذا إلى الشريعة ورأى أن تنزيهها عنه أعظم من تنزيه عائشة عما قاله أهل الإفك وقد أمر الله المؤمنين أن يقولوا : { سبحانك هذا بهتان عظيم } والنبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يفارق عائشة لأنه لم يصدق ما قيل أولا ولما حصل له الشك استشار عليا وزيد بن حارثة وسأل الجارية ; لينظر إن كان حقا فارقها حتى أنزل الله براءتها من السماء فذلك الذي ثبت نكاحها .

                ولم يقل مسلم : إنه يجوز إمساك بغي . وكان المنافقون يقصدون بالكلام فيها الطعن في الرسول ولو جاز التزوج ببغي لقال : هذا لا حرج علي فيه كما كان النساء أحيانا يؤذينه حتى يهجرهن فليس ذنوب المرأة طعنا ; بخلاف بغائها فإنه طعن فيه عند الناس قاطبة ليس أحد يدفع الذم عمن تزوج بمن يعلم أنها بغية مقيمة على البغاء ولهذا توسل المنافقون إلى الطعن حتى أنزل الله براءتها من السماء وقد كان سعد بن معاذ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم { من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا فقام : سعد بن معاذ - الذي اهتز لموته عرش الرحمن - فقال : أنا أعذرك منه : إن كان من إخواننا من الأوس ضربت عنقه وإن كان من [ ص: 119 ] إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فأخذت سعد بن عبادة غيرة - قالت عائشة : وكان قبل ذلك امرأ صالحا ; ولكن أخذته حمية ; لأن ابن أبي كان كبير قوم - [ فقال ] كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله . فقام أسيد ابن حضير : فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنه ; فإنك منافق تجادل عن المنافقين . وثار الحيان حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجعل يسكنهم } . فلولا أن ما قيل في عائشة طعن في النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب المؤمنون قتل من تكلم بذلك من الأوس والخزرج لقذفه لامرأته ولهذا كان من قذف أم النبي صلى الله عليه وسلم يقتل . لأنه قدح في نسبه وكذلك من قذف نساءه يقتل لأنه قدح في دينه وإنما لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم تكلموا بذلك قبل أن يعلم براءتها وأنها من أمهات المؤمنين اللاتي لم يفارقهن عليه إذ كان يمكن أن يطلقها فتخرج بذلك من هذه الأمومة في أظهر قولي العلماء ; فإن فيمن طلقها النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاثة أقوال " في مذهب أحمد وغيره .

                " أحدها " أنها ليست من أمهات المؤمنين . " والثاني " أنها من أمهات المؤمنين . " والثالث " يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها .

                والأول أصح ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خير نساءه بين الإمساك والفراق وكان المقصود لمن فارقها أن يتزوجها غيره . فلو كان هذا مباحا لم يكن ذلك قدحا في دينه . [ ص: 120 ] وبالجملة فهذه المسألة في قلوب المؤمنين أعظم من أن تحتاج إلى كثرة الأدلة فإن الإيمان والقرآن يحرم مثل ذلك ; لكن لما كان قد أباح مثل ذلك كثير من علماء المسلمين - الذين لا ريب في علمهم ودينهم منالتابعين ومن بعدهم وعلو قدرهم - بنوع تأويل تأولوه احتيج إلى البسط في ذلك ; ولهذا نظائر كثيرة : يكون القول ضعيفا جدا وقد اشتبه أمره على كثير من أهل العلم والإيمان وسادات الناس ; لأن الله لم يجعل العصمة عند تنازع المسلمين إلا في الرد إلى الكتاب والسنة وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق على الهوى . فإن قيل : فقد قال : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } ؟ قيل : هذا يدل على أن الزاني الذي لم يتب لا يجوز أن يتزوج عفيفة كما هو إحدى الروايتين عن أحمد فإنه إذا كان يطأ هذه وهذه وهذه كما كان : كان وطؤه لهذه من جنس وطئه لغيرها من الزواني وقد قال الشعبي : من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها .

                و " أيضا " فإنه إذا كان يزني بنساء الناس كان هذا مما يدعو المرأة إلى أن تمكن منها غيره كما هو الواقع كثيرا فلم أر من يزني بنساء الناس أو ذكران إلا فيحمل امرأته على أن تزني بغيره مقابلة على ذلك ومغايظة .

                و " أيضا " فإذا كان عادته الزنا استغنى بالبغايا فلم يكف امرأته في الإعفاف فتحتاج إلى الزنا . [ ص: 121 ] و " أيضا " فإذا زنى بنساء الناس طلب الناس أن يزنوا بنسائه كما هو الواقع . فامرأة الزاني تصير زانية من وجوه كثيرة وإن استحلت ما حرمه الله كانت مشركة ; وإن لم تزن بفرجها زنت بعينها وغير ذلك فلا يكاد يعرف في نساء الرجل الزناة المصرين على الزنا الذين لم يتوبوا منه امرأة سليمة سلامة تامة وطبع المرأة يدعو إلى الرجال الأجانب إذا رأت زوجها يذهب إلى النساء الأجانب وقد جاء في الحديث : { بروا آباءكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم } فقوله : { الزاني لا ينكح إلا زانية } إما أن يراد أن نفس نكاحه ووطئه لها زنا أو أن ذلك يفضي إلى زناها .

                وأما الزانية فنفس وطئها مع إصرارها على الزنا زنا . وكذلك { والمحصنات من المؤمنات } الحرائر وعن ابن عباس : هن العفائف . فقد نقل عن ابن عباس تفسير { المحصنات } بالحرائر . وبالعفائف وهذا حق . فنقول مما يدل على ذلك قوله تعالى { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب } { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين } . " المحصنات " قد قال أهل التفسير : هن العفائف . هكذا قال الشعبي والحسن والنخعي والضحاك والسدي .

                وعن ابن عباس : هن الحرائر ولفظ المحصنات إن أريد به " الحرائر " فالعفة داخلة في الإحصان بطريق الأولى ; فإن أصل [ ص: 122 ] المحصنة هي العفيفة التي أحصن فرجها قال الله تعالى : { ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها } وقال تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } وهن العفائف قال حسان بن ثابت . حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل ثم عادة العرب أن الحرة عندهم لا تعرف بالزنا ; وإنما تعرف بالزنا الإماء ولهذا { لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم هند امرأة أبي سفيان على ألا تزني قالت : أوتزني الحرة } فهذا لم يكن معروفا عندهم . والحرة خلاف الأمة صارت في عرف العامة أن الحرة هي العفيفة ; لأن الحرة التي ليست أمة كانت معروفة عندهم بالعفة وصار لفظ الإحصان يتناول الحرية مع العفة ; لأن الإماء لم تكن عفائف وكذلك الإسلام هو ينهى عن الفحشاء والمنكر وكذلك المرأة المتزوجة زوجها يحصنها لأنها تستكفي به ولأنه يغار عليها .

                فصار لفظ " الإحصان " يتناول : الإسلام والحرية والنكاح . وأصله إنما هو العفة ; فإن العفيفة هي التي أحصن فرجها من غير صاحبها كالمحصن الذي يمتنع من غير أهله وإذا كان الله إنما أباح من المسلمين وأهل الكتاب نكاح المحصنات " والبغايا " لسن محصنات : فلم يبح الله نكاحهن .

                ومما يدل على ذلك قوله : { إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان } والمسافح الزاني الذي يسفح ماءه هذه وهذه [ ص: 123 ] وكذلك المسافحة والمتخذة الخدن الذي تكون له صديقة يزني بها دون غيره فشرط في الحل أن يكون الرجل غير مسافح ولا متخذ خدن . فإذا كانت المرأة بغيا وتسافح هذا وهذا لم يكن زوجها محصنا لها عن غيره ; إذ لو كان محصنا لها كانت محصنة وإذا كانت مسافحة لم تكن محصنة . والله إنما أباح النكاح إذا كان الرجال محصنين غير مسافحين وإذا شرط فيه ألا يزني بغيرها - فلا يسفح ماءه مع غيرها - كان أبلغ وأبلغ .

                وقال أهل اللغة : " السفاح " الزنا .

                قال ابن قتيبة { محصنين } أي متزوجين { غير مسافحين } قال : وأصله من سفحت القربة إذا صببتها . فسمى " الزنا " سفاحا ; لأنه يصب النطفة وتصب المرأة النطفة .

                وقال ابن فارس : " السفاح " صب الماء بلا عقد ولا نكاح فهي التي تسفح ماءها .

                وقال الزجاج : { محصنين } أي عاقدين التزوج .

                وقال غيرهما : متعففين غير زانين وكذلك قال في النساء { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين } ففي هاتين الآيتين اشترط أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين بكسر الصاد . " والمحصن " هو الذي يحصن غيره ; ليس هو المحصن بالفتح الذي يشترط في الحد . فلم يبح إلا تزوج من يكون محصنا للمرأة غير مسافح ومن تزوج ببغي مع بقائها على البغاء ولم يحصنها من غيره - بل هي كما كانت قبل النكاح تبغي مع غيره - فهو مسافح بها لا محصن لها . وهذا حرام بدلالة القرآن . [ ص: 124 ] فإن قيل : إنما أراد بذلك أنك تبتغي بمالك النكاح لا تبتغي به السفاح فتعطيها المهر على أن تكون زوجتك ليس لغيرك فيها حق بخلاف ما إذا أعطيتها على أنها مسافحة لمن تريد وأنها صديقة لك تزني بك دون غيرك فهذا حرام ؟ قيل : فإذا كان النكاح مقصوده أنها تكون له ; لا لغيره وهي لم تتب من الزنا : لم تكن موفية بمقتضى العقد ؟ فإن قيل : فإنه يحصنها بغير اختيارها فيسكنها حيث لا يمكنها الزنا ؟ قيل : أما إذا أحصنها بالقهر فليس هو بمثل الذي يمكنها من الخروج إلى الرجال ودخول الرجال إليها ; لكن قد عرف بالعادات والتجارب أن المرأة إذا كانت لها إرادة في غير الزوج احتالت إلى ذلك بطرق كثيرة وتخفى على الزوج وربما أفسدت عقل الزوج بما تطعمه وربما سحرته أيضا وهذا كثير موجود : رجال أطعمهم نساؤهم وسحرتهم نساؤهم حتى يمكن المرأة أن تفعل ما شاءت ; وقد يكون قصدها مع ذلك أن لا يذهب هو إلى غيرها ; فهي تقصد منعه من الحلال أو من الحرام والحلال . وقد تقصد أن يمكنها أن تفعل ما شاءت فلا يبقى محصنا لها قواما عليها ; بل تبقى هي الحاكمة عليه .

                فإذا كان هذا موجودا فيمن تزوجت ولم تكن بغيا : فكيف بمن كانت بغيا ؟ والحكايات في هذا الباب كثيرة . ويا ليتها مع التوبة يلزم [ ص: 125 ] منه دوام التوبة : فهذا إذا أبيح له نكاحها وقيل له : أحصنها واحتفظ أمكن ذلك . أما بدون التوبة فهذا متعذر أو متعسر .

                ولهذا تكلموا في توبتها فقال ابن عمر وأحمد بن حنبل : يراودها على نفسها . فإن أجابته كما كانت تجيبه لم تتب .

                وقالت طائفة منهم أبو محمد : لا يراودها ; لأنها قد تكون تابت فإذا راودها نقضت التوبة ولأنه يخاف عليه إذا راودها أن يقع في ذنب معها .

                والذين اشترطوا امتحانها قالوا : لا يعرف صدق توبتها بمجرد القول فصار كقوله : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } و " المهاجر " قد يتناول التائب قال النبي صلى الله عليه وسلم { المهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمهاجر من هجر السوء } فهذه إذا ادعت أنها هجرت السوء امتحنت على ذلك وبالجملة لا بد أن يغلب على قلبه صدق توبتها .

                وقوله تعالى { ولا متخذي أخدان } حرم به أن يتخذ صديقة في السر تزني معه لا مع غيره وقد قال سبحانه في آية الإماء { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فذكر في " الإماء " { محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان } وأما " الحرائر " فاشترط فيهن أن يكون الرجال محصنين غير مسافحين وذكر في المائدة { ولا متخذي أخدان } [ ص: 126 ] لما ذكر نساء أهل الكتاب وفي النساء لم يذكر إلا غير مسافحين ; وذلك أن الإماء كن معروفات بالزنا دون الحرائر فاشترط في نكاحهن أن يكن محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فدل ذلك أيضا على أن الأمة التي تبغي لا يجوز تزوجها إلا إذا تزوجها على أنها محصنة يحصنها زوجها فلا تسافح الرجال ولا تتخذ صديقا .

                وهذا من أبين الأمور في تحريم نكاح الأمة الفاجرة مع ما تقدم .

                وقد روي عن ابن عباس { محصنات } عفائف غير زوان { ولا متخذات أخدان } يعني أخلاء : كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي .

                وعنه رواية أخرى : " المسافحات " المعلنات بالزنا " والمتخذات أخدان " ذوات الخليل الواحد .

                قال بعض المفسرين : كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه ولا تزني مع غيره .

                فقد فسر ابن عباس هو وغيره من السلف المحصنات بالعفائف وهو كما قالوا وذكروا أن الزنا في الجاهلية كان نوعين : نوعا مشتركا ونوعا مختصا . والمشترك ما يظهر في العادة ; بخلاف المختص فإنه مستتر في العادة . ولما حرم الله المختص وهو شبيه بالنكاح ; فإن النكاح تختص فيه المرأة بالرجل : وجب الفرق بين النكاح الحلال والحرام من اتخاذ الأخدان ; فإن هذه إذا كان يزني بها وحدها لم يعرف أنها [ لم يطأها غيره ] ولم يعرف أن الولد الذي تلده منه ولا يثبت لها خصائص النكاح .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية