الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء كيف الجلوس في التشهد

                                                                                                          292 حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا عاصم بن كليب الجرمي عن أبيه عن ابن حجر قال قدمت المدينة قلت لأنظرن إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جلس يعني للتشهد افترش رجله اليسرى ووضع يده اليسرى يعني على فخذه اليسرى ونصب رجله اليمنى قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وابن المبارك

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( أخبرنا عبد الله بن إدريس ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي أبو محمد الكوفي ثقة فقيه عابد .

                                                                                                          قوله : ( افترش رجله اليسرى ) وفي رواية الطحاوي وسعيد بن منصور : فرش قدمه اليسرى على الأرض وجلس عليها . والحديث قد احتج به القائلون باستحباب الافتراش في التشهدين ، وأجيب بأن هذا الحديث مطلق وحديث أبي حميد الآتي مقيد فيحمل المطلق على المقيد .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه .

                                                                                                          قوله : ( والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأهل [ ص: 154 ] الكوفة ) قال النووي : اختلف العلماء في أن الأفضل في الجلوس في التشهدين التورك أم الافتراش ، فمذهب مالك وطائفة تفضيل التورك فيهما ، ومذهب أبي حنيفة وطائفة تفضيل الافتراش فيهما ، ومذهب الشافعي وطائفة يفترش في الأول ، ويتورك في الأخير لحديث أبي حميد الساعدي ، ورفقته في صحيح البخاري وهو صريح في الفرق بين التشهدين . قال الشافعي : والأحاديث الواردة بتورك أو افتراش مطلقة لم يبين فيها أنه في التشهدين أو في أحدهما ، وقد بينه أبو حميد ورفقته ووصفوا الافتراش في الأول والتورك في الأخير وهذا مبين ، فوجب حمل ذلك المجمل عليه والله أعلم ، انتهى كلام النووي .

                                                                                                          وقال الحافظ في الفتح : واختلف فيه قول أحمد ، والمشهور عنه اختصاص التورك بالصلاة التي فيها التشهدان ، انتهى .

                                                                                                          قلت : استدل لما ذهب إليه مالك ومن معه بما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه ، ثم قال : أراني هذا عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك . والجواب : أن هذا معارض بما رواه النسائي من طريق عمرو بن الحارث ، عن يحيى بن سعيد ، أن القاسم حدثه عن عبد الله بن عمر عن أبيه ، قال : من سنة الصلاة أن ينصب اليمنى ، ويجلس على اليسرى ، فيحمل ما رواه مالك على التشهد الأخير ، وما رواه النسائي على التشهد الأول دفعا للتعارض .

                                                                                                          واستدل للشافعي ومن معه بحديث أبي حميد الساعدي قال : أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث ، وفيه فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى ، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى ، وقعد على مقعدته رواه البخاري . قال الحافظ في الفتح : في رواية عبد الحميد حتى إذا كانت السجدة التي يكون فيها التسليم ، وفي رواية عند ابن حبان التي تكون خاتمة الصلاة أخرج رجله اليسرى ، وقعد متوركا على شقه الأيسر ، قال : وفي هذا الحديث حجة قوية للشافعي ومن قال بقوله في أن هيئة الجلوس في التشهد الأول مغايرة لهيئة الجلوس في الأخير . وقد قيل في حكمة المغايرة بينهما : إنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات ، ولأن الأول تعقبه حركة بخلاف الثاني ، ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به واستدل به [ ص: 155 ] الشافعي أيضا ، على أن تشهد الصبح كالتشهد الأخير من غيره لعموم قوله في الركعة الأخيرة ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          واستدل لما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومن معه من تفضيل الافتراش في التشهدين بحديث وائل بن حجر المذكور في هذا الباب .

                                                                                                          والجواب : أنه محمول على التشهد الأول بحديث أبي حميد الساعدي المذكور ، لما رواه النسائي في باب : موضع اليدين عند الجلوس للتشهد الأول ، عن وائل بن حجر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة الحديث ، وفيه وإذا جلس في الركعتين أضجع اليسرى ونصب اليمنى إلخ ، وبحديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة الحديث وفيه : وكان يقول في كل ركعتين : التحيات ، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ، وكان ينهى عن عقبة الشيطان رواه مسلم .

                                                                                                          والجواب : أن هذا الحديث محمول على التشهد الأول جمعا بين الأحاديث . وأما قول ابن التركماني بأن إطلاقه يدل على أن ذلك كان في التشهدين بل هو في قوة قولها : وكان يفعل ذلك في التشهد إذ قولها أولا : وكان يقول في كل ركعتين التحيات يدل على هذا التقدير ففيه أن إطلاقه وإن كان يدل على ما قال لكن حمله على التشهد الأول متعين جمعا بين الأحاديث . على أن حديث أبي حميد الساعدي المذكور نص صريح في ثبوت التورك في التشهد الثاني ، وحديث عائشة ليس بنص في نفيه بل غاية ما يقال إنه يدل بظاهره على نفي التورك ، وقد تقرر في مقره أن النص يقدم على الظاهر عند التعارض ، وبحديث ابن عمر ، قال : من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى ، واستقباله بأصابعه القبلة والجلوس على اليسرى رواه النسائي . قلت : تقدم الجواب عن هذا الحديث آنفا فتذكر .

                                                                                                          والحاصل : أنه ليس نص صريح فيما ذهب إليه مالك ومن معه ، ولا فيما ذهب إليه أبو حنيفة ومن معه ، وأما ما ذهب إليه الشافعي ومن معه ففيه نص صريح فهو المذهب الراجح :

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن صاحب الهداية من الحنفية أجاب عن حديث أبي حميد الساعدي بأنه ضعفه الطحاوي أو يحمل على الكبر .

                                                                                                          قلت : جوابه هذا ليس مما يصغى إليه . قال الحافظ في الدراية : قوله والحديث يعني حديث أبي حميد ضعفه الطحاوي ، أو يحمل على حالة الكبر ، أما تضعيف الطحاوي فمذكور في شرحه بما لا يلتفت إليه ، وأما الحمل فلا يصح لأن أبا حميد وصف صلاته التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 156 ] ووافقه عشرة من الصحابة ولم يخصوا ذلك بحال الكبر ، والعبرة بعموم اللفظ ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي ، انتهى كلام الحافظ : وقد أنصف صاحب التعليق الممجد من الحنفية حيث قال في تعليقه على موطأ محمد المسمى بالتعليق الممجد : وحمل أصحابنا هذا يعني حديث أبي حميد الساعدي على العذر ، وعلى بيان الجواز وهو حمل يحتاج إلى دليل ، ومال الطحاوي إلى تضعيفه ، وتعقبه البيهقي وغيره في ذلك ، بما لا مزيد عليه . وذكر قاسم بن قطلوبغا ، في رسالته الأسوس في كيفية الجلوس في إثبات مذهب الحنفية ، أحاديث كحديث عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى ، وحديث وائل : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قعد وتشهد فرش رجله اليسرى أخرجه سعيد بن منصور ، وحديث المسيء صلاته أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا جلست فاجلس على فخذك اليسرى أخرجه أحمد وأبو داود ، وحديث ابن عمر : من سنة الصلاة إلخ . ولا يخفى على الفطن أن هذه الأخبار وأمثالها لا تدل على مذهبنا صريحا بل يحتمله وغيره ، وما كان منها دالا صريحا لا يدل على كونه في جميع القعدات على ما هو المدعى ، والإنصاف أنه لم يوجد حديث يدل صريحا على استنان الجلوس على الرجل اليسرى في القعدة الأخيرة ، وحديث أبي حميد مفصل فليحمل المبهم على المفصل ، انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية