الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل في اعتبار " النية في النكاح " قد بسط الكلام في غير هذا الموضع وبين أن المقصود في العقود معتبر . وكل هذا ينبغي : إبطال الحيل وإبطال نكاح المحلل إذا قصد التحليل والمخالع بخلع اليمين ; فإن هذا لم يقصد [ ص: 147 ] النكاح وهذا لم يقصد فراق المرأة ; بل هذا مقصوده أن تكون امرأته وقصد الخلع مع هذا ممتنع .

                وذاك مقصوده أن تكون زوجة المطلق ثلاثا وقصده مع هذا أن تكون زوجة له ممتنع ; ولهذا لا يعطي مهرا ; بل قد يعطونه من عندهم ولا يطلب استلحاق ولد ولا مصاهرة في تزويجها ; بل قد يحلل الأم وبنتها : إلى غير ذلك مما يبين أنه لم يقصد النكاح . " وأما نكاح المتعة " إذا قصد أن يستمتع بها إلى مدة ثم يفارقها : مثل المسافر الذي يسافر إلى بلد يقيم به مدة فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها ; ولكن النكاح عقده عقدا مطلقا : فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد . قيل : هو نكاح جائز وهو اختيار أبي محمد المقدسي وهو قول الجمهور .

                وقيل : إنه نكاح تحليل لا يجوز ; وروي عن الأوزاعي ; وهو الذي نصره القاضي وأصحابه في الخلاف .

                وقيل : هو مكروه ; وليس بمحرم . والصحيح أن هذا ليس بنكاح متعة ولا يحرم وذلك أنه قاصد للنكاح وراغب فيه ; بخلاف المحلل ; لكن لا يريد دوام المرأة معه . وهذا ليس بشرط ; فإن دوام المرأة معه ليس بواجب ; بل له أن يطلقها .

                فإذا قصد أن يطلقها بعده مدة فقد قصد أمرا جائزا ; بخلاف نكاح المتعة فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة ; ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل . وأما هذا فملكه ثابت مطلق وقد تتغير نيته فيمسكها دائما ; وذلك جائز له كما أنه لو تزوج بنية إمساكها دائما ثم بدا له طلاقها جاز ذلك ولو تزوجها . [ ص: 148 ] بنية أنها إذا أعجبته أمسكها وإلا فارقها : جاز ; ولكن هذا لا يشترط في العقد لكن لو شرط أن يمسكها بمعروف أو يسرحها بإحسان : فهذا موجب العقد شرعا ; وهو شرط صحيح عند جمهور العلماء ولزمه موجب الشرع : كاشتراط النبي صلى الله عليه وسلم في عقد البيع { بيع المسلم للمسلم لا داء ولا غائلة ولا خبثة } وهذا موجب العقد . وقد كان الحسن بن علي كثير الطلاق فلعل غالب من تزوجها كان في نيته أن يطلقها بعد مدة ولم يقل أحد : إن ذلك متعة .

                وهذا أيضا لا ينوي طلاقها عند أجل مسمى ; بل عند انقضاء غرضه منها ومن البلد الذي أقام به ولو قدر أنه نواه في وقت بعينه فقد تتغير نيته فليس في هذا ما يوجب تأجيل النكاح وجعله كالإجارة المسماة وعزم الطلاق لو قدر بعد عقد النكاح لم يبطله ولم يكره مقامه مع المرأة - وإن نوى طلاقها - من غير نزاع نعلمه في ذلك مع اختلافهم فيما حدث من تأجيل النكاح : مثل أن يؤجل الطلاق الذي بينهما ; فهذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد : " أحدهما " تنجز الفرقة وهو قول مالك ; لئلا يصير النكاح مؤجلا . " والثاني " لا تنجز لأن هذا التأجيل طرأ على النكاح والدوام أقوى من الابتداء . فالعدة والردة والإحرام تمنع ابتداءه ; دون دوامه فلا يلزم إذا منع التأجيل في الابتداء أن يمنع في الدوام لكن يقال : ومن الموانع ما يمنع الدوام والابتداء أيضا : فهذا محل اجتهاد .

                كما اختلف في [ ص: 149 ] العيوب الحادثة وزوال الكفاءة : هل تثبت الفسخ ؟ فأما حدوث نية الطلاق إذا أراد أن يطلقها بعد شهر فلم نعلم أن أحدا قال إن ذلك يبطل النكاح فإنه قد يطلق ; وقد لا يطلق عند الأجل . كذلك الناوي عند العقد في النكاح . وكل منهما يتزوج الآخر إلى أن يموت فلا بد من الفرقة والرجل يتزوج الأمة التي يريد سيدها عتقها ولو أعتقت كان الأمر بيدها وهو يعلم أنها لا تختاره وهو نكاح صحيح . ولو كان عتقها مؤجلا أو كانت مدبرة وتزوجها وإن كانت لها عند مدة الأجل اختيار فراقه .

                والنكاح مبناه على أن الزوج يملك الطلاق من حين العقد . فهو بالنسبة إليه ليس بلازم وهو بالنسبة إلى المرأة لازم . ثم إذا عرف أنه بعد مدة يزول اللزوم من جهتها ويبقى جائزا لم يقدح في النكاح ; ولهذا يصح نكاح المجبوب والعنين وبشروط يشترطها الزوج مع أن المرأة لها الخيار إذا لم يوف بتلك الشروط . فعلم أن مصيره جائزا من جهة المرأة لا يقدح وإن كان هذا يوجب انتفاء كمال الطمأنينة من الزوجين . فعزمه على الملك ببعض الطمأنينة . مثل هذا إذا كانت المرأة مقدمة على أنه إن شاء طلق وهذا من لوازم النكاح فلم يعزم إلا على ما يملكه بموجب العقد وهو كما لو عزم أن يطلقها إن فعلت ذنبا أو إذا نقص ماله ونحو ذلك . فعزمه على الطلاق إذا سافر إلى أهله أو قدمت امرأته الغائبة أو قضى وطره منها : من هذا الباب . [ ص: 150 ] وزيد كان قد عزم على طلاق امرأته ولم تخرج بذلك عن زوجيته ; بل ما زالت زوجته حتى طلقها وقال له النبي صلى الله عليه وسلم { اتق الله وأمسك عليك زوجك } وقيل : إن الله قد كان أعلمه أنه سيتزوجها وكتم هذا الإعلام عن الناس فعاتبه الله على كتمانه فقال : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } من إعلام الله لك بذلك . وقيل : بل الذي أخفاه أنه إن طلقها تزوجها . وبكل حال لم يكن عزم زيد على الطلاق قادحا في النكاح في الاستدامة وهذا مما لا نعرف فيه نزاعا . وإذا ثبت بالنص والإجماع أنه لا يؤثر العزم على طلاقها في الحال . وهذا يرد على من قال : إنه إذا نوى الطلاق بقلبه وقع . فإن قلب زيد كان قد خرج عنها ولم تزل زوجته إلى حين تكلم بطلاقها وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به } وهذا مذهب الجمهور : كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وهو إحدى الروايتين عن مالك .

                ولا يلزم إذا أبطله شرط التوقيت أن تبطله نية التطليق فيما بعد ; فإن النية المبطلة ما كانت مناقضة لمقصود العقد والطلاق بعد مدة أمر جائز لا يناقض مقصود العقد إلى حين الطلاق ; بخلاف المحلل فإنه لا رغبة له في نكاحها ألبتة بل في كونها زوجة الأول ولو أمكنه ذلك بغير تحليل لم يحلها هذا . وإن كان مقصوده العوض فلو حصل له بدون نكاحها لم يتزوج وإن كان مقصوده هنا وطأها ذلك اليوم : فهذا من [ ص: 151 ] جنس البغي التي يقصد وطأها يوما أو يومين بخلاف المتزوج الذي يقصد المقام والأمر بيده ولم يشرط عليه أحد أن يطلقها كما شرط على المحلل . فإن قدر من تزوجها نكاحا مطلقا ليس فيه شرط ولا عدة ولكن كانت نيته أن يستمتع بها أياما ثم يطلقها ; ليس مقصوده أن تعود إلى الأول : فهذا هو محل الكلام ; وإن حصل بذلك تحليلها للأول فهو لا يكون محلا إلا إذا قصده أو شرط عليه شرطا لفظيا أو عرفيا . سواء كان الشرط قبل العقد أو بعده .

                وأما إذا لم يكن فيه قصد تحليل ولا شرط أصلا : فهذا نكاح من الأنكحة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية