الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 226 ] قال شيخ الإسلام : فصل في الجمع بين " علو الرب عز وجل وبين قربه " : من داعيه وعابديه .

                فنقول : قد وصف الله نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة حتى قال بعض كبار أصحاب الشافعي : في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله عال على الخلق وأنه فوق عباده .

                وقال غيره : فيه ثلاثمائة دليل تدل على ذلك مثل قوله : { إن الذين عند ربك } { وله من في السماوات والأرض ومن عنده } فلو كان المراد بأن معنى " عنده " في قدرته كما يقول الجهمية لكان الخلق كلهم في قدرته ومشيئته ; لم يكن فرق بين من في السموات ومن في الأرض ومن عنده ; كما أن الاستواء لو كان المراد به الاستيلاء لكان مستويا على جميع المخلوقات ; ولكان مستويا على العرش قبل أن يخلقه دائما .

                والاستواء مختص بالعرش بعد خلق السموات والأرض كما أخبر بذلك في [ ص: 227 ] كتابه ; فدل على أنه تارة كان مستويا عليه وتارة لم يكن مستويا عليه ; ولهذا كان العلو من الصفات المعلومة بالسمع مع العقل عند أئمة المثبتة وأما الاستواء على العرش فمن الصفات المعلومة بالسمع لا بالعقل . والمقصود : أنه تعالى وصف نفسه أيضا بالمعية والقرب . والمعية معيتان : عامة وخاصة . فالأولى كقوله : { وهو معكم أين ما كنتم } والثانية كقوله : { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } إلى غير ذلك من الآيات .

                وأما " القرب " فهو كقوله : { فإني قريب } . وقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } { ونحن أقرب إليه منكم } وقد افترق الناس في هذا المقام " أربع فرق " . " فالجهمية النفاة " الذين يقولون : ليس داخل العالم ولا خارج العالم ولا فوق ولا تحت لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته بل الجميع عندهم متأول أو مفوض . وجميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص : كالخوارج والشيعة والقدرية والرافضة والمرجئة وغيرهم ; إلا الجهمية فإنهم ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه من النفي ; ولهذا قال ابن المبارك ويوسف بن أسباط : [ ص: 228 ] إن الجهمية خارجون عن الثلاث والسبعين فرقة وهذا أحد الوجهين لأصحاب أحمد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد وغيره . " وقسم ثان " يقولون : إنه بذاته في كل مكان كما يقول النجارية وكثير من الجهمية - عبادهم وصوفيتهم وعوامهم - يقولون : إنه عين وجود المخلوقات كما يقوله " أهل الوحدة " القائلون بأن الوجود واحد ومن يكون قوله مركبا من الحلول والاتحاد ; وهم يحتجون بنصوص " المعية والقرب " ; ويتأولون نصوص " العلو والاستواء " . وكل نص يحتجون به حجة عليهم ; فإن المعية أكثرها خاصة بأنبيائه وأوليائه وعندهم أنه في كل مكان . وفي النصوص ما يبين نقيض قولهم ; فإنه قال : { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فكل من في السموات والأرض يسبح والمسبح غير المسبح ثم قال : { له ملك السماوات } فبين أن الملك له .

                ثم قال : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } . وفي الصحيح : { أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء ; } فإذا كان هو الأول كان هناك ما يكون بعده وإذا كان آخرا كان هناك ما الرب بعده وإذا كان ظاهرا ليس فوقه شيء كان هناك ما الرب ظاهر عليه وإذا كان باطنا ليس دونه شيء كان هناك أشياء نفي عنها أن تكون دونه .

                [ ص: 229 ] ولهذا قال " ابن عربي " : من أسمائه الحسنى " العلي " على من يكون عليا وما ثم إلا هو وعلى ماذا يكون عليا وما يكون إلا هو ; فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو . ثم قال : قال الخراز : وهو وجه من وجوه الحق ولسان من ألسنته ينطق عن نفسه بأن الله يعرف بجمعه بين الأضداد ; فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من تراه غيره وما ثم من بطن عنه سواه ; فهو ظاهر لنفسه وهو باطن عن نفسه وهو المسمى " أبو سعيد الخراز " . " والمعية " لا تدل على الممازجة والمخالطة وكذلك لفظ القرب ; فإن عند الحلولية أنه في حبل الوريد كما هو عندهم في سائر الأعيان وكل هذا كفر وجهل بالقرآن . " والقسم الثالث " من يقول : هو فوق العرش وهو في كل مكان . ويقول : أنا أقر بهذه النصوص وهذه لا أصرف واحدا منها عن ظاهره .

                وهذا قول طوائف ذكرهم الأشعري في " المقالات الإسلامية " وهو موجود في كلام طائفة من السالمية والصوفية . ويشبه هذا ما في كلام أبي طالب المكي وابن برجان وغيرهما مع ما في كلام أكثرهما من التناقض ; ولهذا لما كان أبو علي الأهوازي - الذي صنف " مثالب ابن أبي بشر " ورد على أبي القاسم بن عساكر - هو من السالمية وكذلك ذكر " الخطيب البغدادي " : أن جماعة أنكروا على أبي طالب كلامه في الصفات .

                [ ص: 230 ] وهذا الصنف الثالث وإن كان أقرب إلى التمسك بالنصوص وأبعد عن مخالفتها من الصنفين الأولين . فإن الأول لم يتبع شيئا من النصوص ; بل خالفها كلها . والثاني ترك النصوص الكثيرة المحكمة المبينة وتعلق بنصوص قليلة اشتبهت عليه معانيها . وأما هذا الصنف فيقول : أنا اتبعت النصوص كلها لكنه غالط أيضا . فكل من قال : إن الله بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده ولصريح المعقول وللأدلة الكثيرة . وهؤلاء يقولون أقوالا متناقضة يقولون : إنه فوق العرش . ويقولون : نصيب العرش منه كنصيب قلب العارف كما يذكر مثل ذلك أبو طالب وغيره .

                ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان وما يتبع ذلك فإن قالوا : إن العرش كذلك نقضوا قولهم : إنه نفسه فوق العرش . وإن قالوا بحلوله بذاته في قلوب العارفين كان هذا قولا بالحلول الخالص . وقد وقع في ذلك طائفة من " الصوفية " حتى صاحب " منازل السائرين " في توحيده المذكور في آخر المنازل في مثل هذا الحلول ; ولهذا كان أئمة القوم يحذرون من مثل هذا . سئل " الجنيد " عن التوحيد فقال : هو إفراد الحدوث عن القدم . فبين أنه لا بد للموحد من التمييز بين القديم الخالق والمحدث المخلوق [ ص: 231 ] فلا يختلط أحدهما بالآخر وهؤلاء يقولون في أهل المعرفة ما قالته النصارى في المسيح والشيعة في أئمتها ; وكثير من الحلولية والإباحية ينكر على الجنيد وأمثاله من شيوخ أهل المعرفة المتبعين للكتاب والسنة ما قالوه من نفي الحلول وما قالوه في إثبات الأمر والنهي ويرى أنهم لم يكملوا معرفة الحقيقة كما كملها هو وأمثاله من الحلولية والإباحية .

                وأما " القسم الرابع " فهم سلف الأمة وأئمتها : أئمة العلم والدين من شيوخ العلم والعبادة فإنهم أثبتوا وآمنوا بجميع ما جاء به الكتاب والسنة كله من غير تحريف للكلم أثبتوا أن الله تعالى فوق سمواته وأنه على عرشه بائن من خلقه وهم منه بائنون وهو أيضا مع العباد عموما بعلمه ومع أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد والكفاية وهو أيضا قريب مجيب ; ففي آية النجوى دلالة على أنه عالم بهم .

                وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل } فهو سبحانه مع المسافر في سفره ومع أهله في وطنه ولا يلزم من هذا أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم كما قال : { محمد رسول الله والذين معه } أي ( معه على الإيمان ) لا أن ذاتهم في ذاته بل هم مصاحبون له . وقوله : { فأولئك مع المؤمنين } يدل على موافقتهم في الإيمان وموالاتهم فالله تعالى عالم بعباده وهو معهم أينما كانوا وعلمه بهم من لوازم المعية ; كما قالت المرأة : زوجي طويل النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد : فهذا كله [ ص: 232 ] حقيقة ومقصودها : أن تعرف لوازم ذلك وهو طول القامة والكرم بكثرة الطعام وقرب البيت من موضع الأضياف . وفي القرآن : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم } الآية فإنه يراد برؤيته وسمعه إثبات علمه بذلك ; وأنه يعلم هل ذلك خير أم شر فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات .

                وكذلك إثبات القدرة على الخلق كقوله : { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } وقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } والمراد التخويف بتوابع السيئات ولوازمها من العقوبة والانتقام . وهكذا كثيرا ما يصف الرب نفسه بالعلم وبالأعمال : تحذيرا وتخويفا وترغيبا للنفوس في الخير . ويصف نفسه بالقدرة والسمع والرؤية والكتاب فمدلول اللفظ مراد منه وقد أريد أيضا لازم ذلك المعنى ; فقد أريد ما يدل عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة وبالالتزام ; فليس اللفظ مستعملا في اللازم فقط بل أريد به مدلوله الملزوم وذلك حقيقة . وأما لفظ " القرب " فقد ذكره تارة بصيغة المفرد وتارة بصيغة الجمع ; [ ص: 233 ] فالأول إنما جاء في إجابة الداعي : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع } وكذلك في الحديث : { أربعوا على أنفسكم ; فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته } وجاء بصيغة الجمع في قوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } وهذا مثل قوله : { نتلوا عليك } { نحن نقص عليك } { فإذا قرأناه } و { إن علينا جمعه وقرآنه } و { علينا بيانه } . فالقرآن هنا حين يسمعه من جبريل والبيان هنا بيانه لمن يبلغه القرآن .

                ومذهب سلف الأمة وأئمتها وخلفها : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل وجبريل سمعه من الله عز وجل . وأما قوله . { نتلوا } و { نقص } { فإذا قرأناه } فهذه الصيغة في كلام العرب للواحد العظيم الذي له أعوان يطيعونه فإذا فعل أعوانه فعلا بأمره قال : نحن فعلنا : كما يقول الملك : نحن فتحنا هذا البلد وهزمنا هذا الجيش ونحو ذلك ; لأنه إنما يفعل بأعوانه والله تعالى رب الملائكة وهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهو مع هذا خالقهم وخالق أفعالهم وقدرتهم وهو غني عنهم ; وليس هو كالملك الذي يفعل أعوانه بقدرة وحركة يستغنون بها عنه فكان قوله لما فعله بملائكته : نحن فعلنا أحق وأولى من قول بعض الملوك .

                [ ص: 234 ] وهذا اللفظ هو من " المتشابه " الذي ذكر أن النصارى احتجوا به على النبي صلى الله عليه وسلم على التثليث لما وجدوا في القرآن { إنا فتحنا لك } ونحو ذلك ; فذمهم الله حيث تركوا المحكم من القرآن : أن الإله واحد وتمسكوا بالمتشابه الذي يحتمل الواحد الذي معه نظيره : والذي معه أعوانه الذين هم عبيده وخلقه واتبعوا المتشابه يبتغون بذلك الفتنة وهي فتنة القلوب بتوهم آلهة متعددة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فإنهما قولان للسلف وكلاهما حق . فمن قال : إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله قال : - إن تأويله ما يؤول إليه وهو ما أخبر القرآن عنه في قوله إنا ونحن - هم الملائكة الذين هم عباد الرحمن الذين يدبر بهم أمر السماء والأرض وأولئك لا يعلم عددهم إلا الله ولا يعلم صفتهم غيره ولا يعلم كيف يأمرهم يفعلون إلا هو قال تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } وكل من الملائكة وإن علم حال نفسه وغيره ; فلا يعلم جميع الملائكة ولا جميع ما خلق الله من ذلك . ومن قال : إن الراسخين يعلمون تأويله قال : " التأويل " هو التفسير وهو إعلام الناس بالخطاب .

                فالراسخون في العلم يعلمون تفسير القرآن كله وما بين الله من معانيه كما استفاضت بذلك الآثار عن السلف . فالراسخون في العلم يعلمون أن قوله : [ ص: 235 ] نحن إن الله فعل ذلك بملائكته وإن كانوا لا يعرفون عدد الملائكة ولا أسماءهم ولا صفاتهم وحقائق ذواتهم ; ليس الراسخون كالجهال الذين لا يعرفون ( إنا و ( نحن ; بل يقولون : ألفاظا لا يعرفون معانيها أو يجوزون أن تكون الآلهة ثلاثة متعددة أو واحدا لا أعوان له . ومن هذا قول الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس } فإنه سبحانه يتوفاها برسله كما قال : { توفته رسلنا } { يتوفاكم ملك الموت } فإنه يتوفاها برسله الذين مقدمهم ملك الموت .

                وقوله : { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } هو قراءة جبريل له عليه والله قرأه بواسطة جبريل كما قال : { أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء } فهو مكلم لمحمد بلسان جبريل وإرساله إليه وهذا ثابت للمؤمنين كما قال تعالى { قد نبأنا الله من أخباركم } وإنباء الله لهم إنما كان بواسطة محمد إليهم . وكذلك قوله : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } { وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة } فهو أنزل على المؤمنين بواسطة محمد . وكذلك ذوات الملائكة تقرب من ذات المحتضر ; وقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } فإنه سبحانه هو وملائكته يعلمون ما توسوس به نفس العبد كما ثبت في الصحيحين : { إذا هم العبد بحسنة فلم يعملها قال الله لملائكته : اكتبوها له حسنة فإن عملها قال : اكتبوها له عشر حسنات وإذا هم بسيئة } [ ص: 236 ] إلى آخر الحديث .

                فالملائكة يعلمون ما يهم به من حسنة وسيئة و " الهم " إنما يكون في النفس قبل العمل . وأبلغ من ذلك أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وهو يوسوس له بما يهواه فيعلم ما تهواه نفسه . فقوله : { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } هو قرب ذوات الملائكة وقرب علم الله منه وهو رب الملائكة والروح وهم لا يعلمون شيئا إلا بأمره ; فذاتهم أقرب إلى قلب العبد من حبل الوريد فيجوز أن يكون بعضهم أقرب إليه من بعض ; ولهذا قال في تمام الآية : { إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } وهذا كقوله : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } فقوله إذ ظرف فأخبر أنهم { أقرب إليه من حبل الوريد } حين يتلقى المتلقيان ما يقول { عن اليمين } قعيد { وعن الشمال قعيد } ثم قال { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } أي شاهد لا يغيب . فهذا كله خبر عن الملائكة فقوله : { فإني قريب } و { هو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته } فهذا إنما جاء في الدعاء لم يذكر أنه قريب من العباد في كل حال وإنما ذكر ذلك في بعض الأحوال وقد قال في الحديث : { أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد } . وقال تعالى : { واسجد واقترب } والمراد القرب من الداعي في سجوده كما قال : { وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم } فأمر [ ص: 237 ] بالاجتهاد في الدعاء في السجود مع قرب العبد من ربه وهو ساجد .

                وقد أمر المصلي أن يقول في سجوده : { سبحان ربي الأعلى } رواه أهل السنن . وكذلك حديث ابن مسعود : { إذا سجد العبد فقال في سجوده : سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه } رواه أبو داود . وفي حديث حذيفة الذي رواه مسلم : { أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل صلاة قرأ فيها بالبقرة والنساء وآل عمران ثم ركع ثم سجد نحو قراءته يقول في ركوعه : سبحان ربي العظيم وفي سجوده : سبحان ربي الأعلى } وذلك أن السجود غاية الخضوع والذل من العبد وغاية تسفيله وتواضعه : بأشرف شيء فيه لله - وهو وجهه - بأن يضعه على التراب فناسب في غاية سفوله أن يصف ربه بأنه الأعلى ، والأعلى أبلغ من العلي ; فإن العبد ليس له من نفسه شيء ; هو باعتبار نفسه عدم محض وليس له من الكبرياء والعظمة نصيب . وكذلك في " العلو في الأرض " ليس للعبد فيه حق ; فإنه سبحانه ذم من يريد العلو في الأرض : كفرعون وإبليس . وأما المؤمن فيحصل له العلو بالإيمان ; لا بإرادته له كما قال تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } . فلما كان السجود غاية سفول العبد وخضوعه سبح اسم ربه الأعلى فهو سبحانه الأعلى والعبد الأسفل كما أنه الرب والعبد العبد وهو الغني والعبد [ ص: 238 ] الفقير وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية فكلما كملها قرب العبد إليه ; لأنه سبحانه بر جواد محسن يعطي العبد ما يناسبه فكلما عظم فقره إليه كان أغنى ; وكلما عظم ذله له كان أعز ; فإن النفس - لما فيها من أهوائها المتنوعة وتسويل الشيطان لها - تبعد عن الله حتى تصير ملعونة بعيدة من الرحمة . " واللعنة " هي البعد ; ومن أعظم ذنوبها إرادة العلو في الأرض ; والسجود فيه غاية سفولها ; قال تعالى : { إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }

                . وفي الصحيح : { لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر } وقال لإبليس { فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها } وقال : { وكلمة الله هي العليا } فهذا وصف لها ثابت . لكن من أراد أن يعلي غيرها جوهد وقال : { من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } . و " كلمة الله " هي خبره وأمره : فيكون أمره مطاعا مقدما على أمر غيره وخبره مطاعا مقدما على خبر غيره وقال : { ويكون الدين كله لله } " والدين " هو العبادة والطاعة والذل ونحو ذلك يقال : دنته فدان : أي ذللته فذل . كما قيل :

                هو دان الرباب إذ كرهوا الدين دراكا بغزوة وصيال     ثم دانت بعد الرباب وكانت
                كعذاب عقوبة الأقوال

                [ ص: 239 ] فإذا كانت العبادة والطاعة والذل له تحقق أنه أعلى في نفوس العباد عندهم كما هو الأعلى في ذاته كما تصير كلمته هي العليا في نفوسهم كما هي العليا في نفسها وكذلك التكبير يراد به أن يكون عند العبد أكبر من كل شيء ; كما قال صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : { يا عدي ما يفرك ؟ أيفرك أن يقال : لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله إلا الله ؟ يا عدي ما يفرك ؟ أيفرك أن يقال : الله أكبر ؟ فهل من شيء أكبر من الله ؟ } وهذا يبطل قول من جعل أكبر بمعنى كبير .

                وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد } وهو الإسلام وهو الاستسلام لله ; لا لغيره بأن تكون العبادة والطاعة له والذل وهو حقيقة لا إله إلا الله . ولا ريب أن ما سوى هذا لا يقبل وهو سبحانه يطاع في كل زمان بما أمر به في ذلك الزمان ; فلا إسلام بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا فيما جاء به وطاعته وهي ملة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه وهو " الأمة " الذي يؤتم به كما أن " القدوة " هو الذي يقتدى به وهو " الإمام " كما في قوله { إني جاعلك للناس إماما } وهو " القانت " والقنوت دوام الطاعة وهو الذي يطيع الله دائما والحنيف المستقيم إلى ربه دون ما سواه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية