الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ القول في الخلوة في إيجابها المهر ]

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإن دخلت عليه فلم يمسها حتى طلقها ، فلها نصف المهر ؛ لقول الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ، [ ص: 540 ] فإن احتج محتج بالأثر عن عمر رضي الله عنه في إغلاق الباب وإرخاء الستر أنه يوجب المهر ، فمن قول عمر ما ذنبهن لو جاء بالعجز من قبلكم ؟ فأخبر أنه يجب إذا خلت بينه وبين نفسها كوجوب الثمن بالقبض ، وإن لم يغلق بابا ولم يرخ سترا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها ؛ أن يطلق الرجل زوجته المسمى لها صداقا معلوما ، فلا يخلو حال طلاقه من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون قبل الدخول بها وقبل الخلوة ، وليس لها من المهر إلا نصفه ، وملك الزوج نصفه ؛ لقوله تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم [ البقرة : 237 ] .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يطلقها بعد الدخول بوطء تام تغيب به الحشفة ، فقد استقر لها جميع المهر الذي كانت مالكة له بالعقد ؛ لقول الله تعالى : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض [ النساء : 21 ] .

                                                                                                                                            وهذان القسمان متفق عليهما .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يطلقها بعد الخلوة بها وقبل الإصابة لها ، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها - وهو قول الشافعي في الجديد والمعمول عليه من مذهبه - : أنه ليس لها من المهر إلا نصفه ، ولا تأثير للخلوة في كمال مهر ، ولا إيجاب عدة .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة : ابن عباس ، وابن مسعود .

                                                                                                                                            ومن التابعين : الشعبي ، وابن سيرين .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء : أبو ثور .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : أن الخلوة كالدخول في كمال المهر ووجوب العدة .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم .

                                                                                                                                            ومن التابعين : الزهري .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء ؛ الثوري ، وأبو حنيفة . وبه قال الشافعي في القديم .

                                                                                                                                            إلا أن أبا حنيفة يعتبر الخلوة التامة في كمال المهر ووجوب العدة بألا يكونا محرمين ولا صائمين .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : أن الخلوة يد لمدعي الإصابة منهما في كمال المهر أو وجوب العدة ، فإن لم يدعياها لم يكمل بالخلوة مهر ، ولا يجب بها عدة . وهذا مذهب مالك ، وبه قال الشافعي في " الإملاء " .

                                                                                                                                            [ ص: 541 ] واستدل من نصر قول أبي حنيفة في أن الخلوة تقتضي كمال المهر ووجوب العدة بقول الله تعالى : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا ، ولهم من الآية دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : عموم قوله فلا تأخذوا منه شيئا ، إلا ما خصه دليل .

                                                                                                                                            والثاني : قوله وقد أفضى بعضكم إلى بعض ، قال الفراء : معناه وقد خلا بعضكم ببعض ؛ لأن الفضاء هو الموضع الواسع الخالي ، وقول الفراء فيما تعلق باللغة حجة .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من كشف قناع امرأة فقد وجب لها المهر كاملا " .

                                                                                                                                            . وهذا نص .

                                                                                                                                            وروي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم " .

                                                                                                                                            وروي عن زرارة بن أوفى أنه قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب عليه المهر ؛ دخل بها أو لم يدخل ، وقد قال النبي عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ .

                                                                                                                                            ومن القياس : أن النكاح عقد على منفعة ، فوجب أن يكون التمكين من المنفعة بمنزلة استيفائها في استقرار بدلها كالإجارة ، ولأن التسليم المستحق بالعقد قد وجد من جهتها فوجب أن يستقر العوض لها ، أصله : إذا وطئها .

                                                                                                                                            ولأن المهر في مقابلة الإصابة كما أن النفقة في مقابلة الاستمتاع ، ثم ثبت أن التمكين من الاستمتاع شرط بمنزلة الاستمتاع في استقرار النفقة فوجب أن يكون التمكين من الإصابة بمنزلة الإصابة في استقرار المهر .

                                                                                                                                            والدليل على أن الخلوة لا يتعلق بها حكم في كمال مهر ، ولا وجوب عدة ، ولا بدء في دعوى : قول الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم والمسيس عبارة عن الوطء ؛ لثلاثة معان :

                                                                                                                                            أحدها : أنه مروي في التفسير عن ابن عباس ، وابن مسعود .

                                                                                                                                            والثاني : أن المسيس كناية لما يستقبح صريحه ، وليست الخلوة مستقبحة التصريح فيكنى عنها ، والوطء مستقبح فكني بالمسيس عنه .

                                                                                                                                            والثالث : أن المسيس لا يتعلق به على المذهبين كمال المهر ؛ لأنه لو خلا بها من غير مسيس كمل عندهم المهر ، ولو وطئها من غير خلوة كمل عليه المهر ، ولو مسها من غير خلوة ولا وطء لم يكمل المهر ، فكان حمل المسيس على الوطء الذي يتعلق به [ ص: 542 ] الحكم أولى من حمله على غيره ، وإذا كان كذلك فقد جعل الطلاق قبل المسيس الذي هو الوطء موجبا لاستحقاق نصف المهر .

                                                                                                                                            ومن طريق القياس : أنه طلاق قبل الإصابة فوجب ألا يكمل به المهر كالطلاق قبل الخلوة ، ولأنها خلوة خلت عن الإصابة ، فوجب ألا يكمل بها المهر كالخلوة إذا كان أحدهما محرما أو صائما فرضا ؛ ولأن ما لا يوجب الغسل لا يوجب كمال المهر كالقبلة من غير خلوة ، ولأن الخلوة لما لم يقم في حقها مقام الإصابة لم يقم في حقه مقام الإصابة كالنظر ، وبيان ذلك أنه لو خلا بها لم يسقط بها حق الإيلاء والعنة ، ولأن ما لا يثبت به حق التسليم في أحد جنبي العقد لم يثبت به حق التسليم في الجنبة الأخرى قياسا على تسليم المبيع والمؤاجر إذا كان دون قبضهما حائل ، ولأن للوطء أحكاما تختص به من وجوب الحد والغسل ، وثبوت الإحصان والإحلال للزوج الأول وسقوط العنة وحكم الإيلاء ، وإفساد العبادة ووجوب الكفارة ، واستحقاق المهر في النكاح الفاسد ، وكماله في الصحيح ، ووجوب العدة فيهما .

                                                                                                                                            فلما انتفى عن الخلوة جميع هذه الأحكام سوى تكميل المهر والعدة انتفى عنها هذان ، اعتبارا بسائر الأحكام .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا : أنه حكم من أحكام الوطء فوجب أن ينتفي عن الخلوة ، قياسا على ما ذكرنا .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الفراء قد خولف في تفسير الإفضاء ، فقال الزجاج في " معانيه " : أنه الغشيان ، وقال ابن قتيبة في " غريب القرآن " : هو الجماع . فكان قول الفراء محجوجا بغيره .

                                                                                                                                            والثاني : أن الآية التي استدللنا بها مفسرة تقضي على هذا المجمل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الخبر : فهو أن كشف القناع لا يتعلق به كمال المهر عندنا ولا عندهم ، فإن جعلوه كناية في الخلوة كان جعله كناية في الوطء أولى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الأثر عن عمر رضي الله عنه في قوله : " ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم " ، فهو أنه يقتضي أن يكون لها المهر مع العجز ، سواء كانت خلوة أو لم تكن ، فيكون معناه استحقاق دفعه قبل الطلاق ، وكذلك الجواب عن حديث زرارة بن أوفى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الإجارة فمنتقض ممن سلمت نفسها في صوم ، أو إحرام ، أو حيض .

                                                                                                                                            [ ص: 543 ] فإن قيل : الصوم والإحرام مانع ، فلم يتم التسليم .

                                                                                                                                            قيل : الجب والعنة أبلغ في المنع ، ولا يمنع من التسليم الموجب لكمال المهر عندهم بالخلوة ، على أنه لو وطئ في الصيام والإحرام لكمل المهر واستقر ، فجاز أن تكون الخلوة لو أوجبت كمال المهر في غير الإحرام موجبة لكماله في الإحرام كالوطء .

                                                                                                                                            على أن صوم التطوع يصير عندهم واجبا بالدخول فيه ، ولا يمنع الخلوة فيه من كمال المهر عندهم ، فكذلك غيره من صوم الفرض .

                                                                                                                                            على أن الإجارة مقدرة بالزمان ، فجاز أن تستقر الأجرة بالتمكين فيه لتقضيه ، وليس النكاح مقدرا بالزمان ، فلم يستقر المهر فيه بالتمكين إلا بانقضاء زمانه بالموت أو بالوطء في حال الحياة ؛ لأنه مقصود بالعقد .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الوطء : فالمعنى في الأصل استيفاء حقه بالوطء ، وليس كذلك الخلوة .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بالنفقة : فالجواب عنه أن النفقة مقابلة بالتمكين دون الوطء ، ولذلك وجب لها النفقة مع التمكين في الصيام والإحرام وليس كذلك المهر ؛ لأنه في مقابلة الوطء ؛ لأنهم لا يكملون المهر بالخلوة في حال الإحرام والصيام .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية