الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين .

عطف على قوله : حرمت عليكم أمهاتكم وما بعده ، وبذلك تلتئم الجمل الثلاث في الخبرية المراد بها الإنشاء ، وفي الفعلية والماضوية .

قرأ الجمهور : وأحل لكم بالبناء للفاعل ، والضمير المستتر عائد إلى اسم الجلالة من قوله : كتاب الله عليكم .

وأسند التحليل إلى الله تعالى إظهارا للمنة ، ولذلك خالف طريقة إسناد التحريم إلى المجهول في قوله : حرمت عليكم أمهاتكم لأن التحريم مشقة فليس المقام فيه مقام منة .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر : ( وأحل ) بضم الهمزة وكسر الحاء على البناء للنائب على طريقة حرمت عليكم أمهاتكم .

[ ص: 8 ] والوراء هنا بمعنى ( غير ودون ) كقول النابغة :


وليس وراء الله للمرء مذهب

وهو مجاز ; لأن الوراء هو الجهة التي هي جهة ظهر ما يضاف إليه . والكلام تمثيل لحال المخاطبين بحال السائر يترك ما وراءه ويتجاوزه .

والمعنى : أحل لكم ما عدا أولئكم المحرمات ، وهذا أنزل قبل تحريم ما حرمته السنة نحو لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، ونحو يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .

وقوله : أن تبتغوا بأموالكم يجوز أن يكون بدل اشتمال من ( ما ) باعتبار كون الموصول مفعولا لـ ( أحل ) والتقدير : أن تبتغوهن بأموالكم فإن النساء المباحات لا تحل إلا بعد العقد وإعطاء المهور ، فالعقد هو مدلول ( تبتغوا ) وبذل المهر هو مدلول ( بأموالكم ) ورابط الجملة محذوف : تقديره أن تبتغوه ، والاشتمال هنا كالاشتمال في قول النابغة :


مخافة عمرو أن تكون جياده     يقدن إلينا بين حاف وناعل

ويجوز أن يجعل أن تبتغوا معمولا للام التعليل محذوفة ، أي أحلهن لتبتغوهن بأموالكم ، والمقصود هو عين ما قرر في الوجه الأول .

و ( محصنين ) حال من فاعل ( تبتغوا ) أي محصنين أنفسكم من الزنى ، والمراد متزوجين على الوجه المعروف . و غير مسافحين حال ثانية ، والمسافح الزاني ، لأن الزنى يسمى السفاح ، مشتقا من السفح ، وهو أن يهراق الماء دون حبس ، يقال : سفح الماء . وذلك أن الرجل والمرأة يبذل كل منهما للآخر ما رامه منه دون قيد ولا رضا ولي ، فكأنهم اشتقوه من معنى البذل بلا تقيد بأمر معروف ; لأن المعطاء يطلق عليه السفاح . وكان الرجل إذا أراد من المرأة الفاحشة يقول لها : سافحيني ، فرجع معنى السفاح إلى التبادل وإطلاق العنان ، وقيل : لأنه بلا عقد ، فكأنه سفح سفحا ، أي صبا لا يحجبه شيء ، وغير هذا في اشتقاقه لا يصح ، لأنه لا يختص بالزنى .

التالي السابق


الخدمات العلمية