الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( إذا أثبت صيدا بالرمي أو بالكلب فأزال امتناعه ملكه لأنه حبسه بفعله فملكه كما لو أمسكه بيده فإن رماه اثنان واحد بعد واحد فهو لمن أثبته منهما فإن ادعى كل واحد منهما أنه هو الذي سبق وأزال امتناعه وأن الآخر رماه فقتله فعليه الضمان ولم يحل أكله لأنهما اتفقا على أنه قتل بعد إمكان ذبحه فلم يحل ويتحالفان فإذا حلفا برئ كل واحد منهما مما يدعي الآخر ، وإن اتفقا على أن أحدهما هو السابق غير أن السابق ادعى أنه هو الذي أثبته بسهمه وادعى الآخر أنه بقي على الامتناع إلى أن رماه هو فالقول قول الثاني لأن الأصل بقاؤه على الامتناع وإن كان الصيد مما يمتنع بالرجل والجناح كالقبج والقطا فرماه أحدهما فأصاب الرجل ثم رماه فأصاب الجناح ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه يكون بينهما لأنه زال الامتناع بفعلهما فتساويا ( والثاني ) أنه للثاني وهو الصحيح لأن الامتناع لم يزل إلا بفعل الثاني فوجب أن يكون له )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في الفصل مسألتان : ( أحدهما ) فيما يملك به الصيد .

                                      ( والثانية ) في الازدحام عليه ( فأما ) الثانية فنؤخر شرحها ونذكره مع الفصلين بعدها إن شاء الله تعالى ، ( وأما الأولى ) فقال أصحابنا : يملك [ ص: 149 ] الصيد بطرق ( منها ) أن يضبطه بيده فيملكه ولا يشترط فيه قصد التملك في أخذه بيده حتى لو أخذ صيدا لينظر إليه ملكه بلا خلاف . ولو سعى وراء صيد ليأخذه فوقف الصيد للإعياء لم يملكه حتى يقبضه ( ومنها ) أن يجرحه جراحة مذففة أو رمية مثخنة أو يرميه فيملكه ، وكذا إن كان طائرا فكسر جناحه فعجز عن العدو والطيران جميعا ، قالوا : ويكفي المتملك إبطال شدة العدو وصيرورته بحيث يسهل لحاقه ، ولو جرحه فعطش وثبت لم يملكه إن كان عطشه لعدم الماء ، وإن كان لعجزه عن الوصول إلى الماء ملكه ، لأن عجزه بالجراحة .

                                      ( ومنها ) لو نصب شبكة ونحوها للصيد فوقع فيها صيد ملكه ، فلو طرده طارد فوقع في الشبكة . فهو لصاحب الشبكة لا للطارد ، وقال الماوردي وغيره : ولو وقع في الشبكة ثم تقطعت الشبكة فأفلت وذهب فإن كان ذلك بقطع الصيد الواقع فيها عاد مباحا فيملكه من صاده بعد ذلك لأن الأول لم تثبته شبكته وإلا فيملكه صاحب الشبكة وهو باق على ملكه فلا يملكه من أخذه ، وقال الغزالي في الوسيط ، في باب البئر : لو وقع في الشبكة فأفلت لم يزل ملكه على الصحيح ، هكذا أطلقه الغزالي ، والمذهب التفصيل الذي ذكره الماوردي ، ولو تغفل الصيد بالشبكة ، ثم قلع الشبكة وذهب بها فأخذه إنسان نظر إن كان يعدو ويمتنع مع الشبكة فله الأخذ ، فإن أبطل ثقل الشبكة امتناعه بحيث تيسر أخذه فهو لصاحب الشبكة ولا يملكه غيره .

                                      ( ومنها ) إذا أرسل كلبا فأثبت صيدا ملكه المرسل ، فلو أرسل سبعا آخر فعقره وأثبته ، قال الماوردي : إن كان له على السبع يد ملك الصيد ، وإلا فلا ، ولو أفلت الصيد بعدما أخذه الكلب قال الروياني : قال بعض الأصحاب : إن كان ذلك قبل أن يدركه صاحبه لم يملكه ، وإن كان [ ص: 150 ] بعده فوجهان ( أصحهما ) لا يملكه ، لأنه لم يقبضه ولا زال امتناعه ، فعلى هذا يملكه من صاحبه بعد ذلك .

                                      ( ومنها ) إذا ألجأه إلى مضيق لا يقدر على الإفلات منه ملكه ، وذلك بأن يدخله بيتا ونحوه ، ولو اضطر سمكة إلى بركة صغيرة أو حوض صغير على شط نهر ملكه ، كما لو اضطر الصيد إلى بيت ، والصغير هو ما يسهل أخذها منه ، ولو اضطرها إلى بركة واسعة يعسر أخذها منها أو دخلتها السمكة فسد منافذها ففيها الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى قريبا ، فيما إذا دخل الصيد ملكه ( فإن قلنا ) بالأصح إنه يملكه بالدخول فسد منازل البركة ملك السمكة ، لأنه تسبب إلى ضبطها . والله أعلم .

                                      قال الرافعي : وقد ترجع جميع هذه الطرق إلى شيء واحد ، وهو أن يقال : سبب ملك الصيد إبطال زوال امتناعه ، وحصول الاستيلاء عليه . وذلك يحصل بالطرق المذكورة ، والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) لو توحل صيد بأرض إنسان وصار مقدورا عليه فوجهان ( أحدهما ) يملكه كما لو وقع في شبكته ، ( وأصحهما ) لا يملكه ، لأنه لا يقصد بسقي الأرض الاصطياد ، قال إمام الحرمين : الخلاف فيما إذا لم يكن سقي الأرض مما يقصد به الاصطياد وتوحل الصيود ، فإن كان يقصد فهو كنصب الشبكة ، ولم يتعرض الروياني لأرض الشخص ، بل قال : لو توحل وهو في طلبه لم يملكه ، لأن الطين ليس من فعله فلو كان هو أرسل الماء في الأرض ملكه ، لأن الوحل حصل بفعله ، فهو كالشبكة ، قال الرافعي : ويشبه أن يكون هذا عائدا إلى ما ذكره الإمام من قصد الاصطياد بالسقي . ولو وقع صيد في أرض وصار مقدورا عليه أو عشش في أرضه طائر وباض وفرخ ، وحصلت القدرة على البيض والفرخ ، لم يملكه على أصح الوجهين وبه قطع البغوي وغيره ( والثاني ) يملكه . قال البغوي : ولو [ ص: 151 ] حفر حفرة لا للصيد فوقع فيها صيد لم يملكه ، وإن حفر للصيد ملك ما وقع فيها ، ولو أغلق باب الدار لئلا يخرج صار ملكا له . قال إمام الحرمين : قال الأصحاب : إذا قلنا : لا يملكه صاحب الأرض والدار ، فهو أولى بملكه ، وليس لغيره أن يدخل ملكه ويأخذه فإن فعل فهل يملكه ؟ فيه وجهان كمن يحجر مواتا وأحياه غيره ، هل يملكه ؟ وهذه الصور أولى بثبوت الملك ، لأن الحجر للإحياء ولا يقصد ببناء الدار وقوع الصيد فيها ( والأصح ) في الصورتين أن المحيي وآخذ الصيد يملكان ، وإن كانا غاصبين بتفويت حق المتحجر وصاحب الأرض . ولو قصد ببناء الدار تعشيش الطير فعشش فيها طير ، أو وقعت الشبكة من يده بغير قصد فتغفل فيها صيد فوجهان ، لأنه وجد في الأولى قصد . لكنه ضعيف ، وفي الثانية حصل الاستيلاء بملكه لكنه بلا قصد ( والأصح ) أنه يملكه في الصورة الأولى دون الثانية .



                                      ( فرع ) لو دخل بستان غيره أو داره ، وصاد فيه طائرا أو غيره . ملكه الصائد بلا خلاف ولو دخل صيد دار إنسان وقلنا بالأصح : إنه لا يملكه فأغلق أجنبي عليه لم يملكه صاحب الدار ، ولا الأجنبي ، لأنه متعد لم يحصل الصيد في يده بخلاف من غصب شبكة واصطاد بها .



                                      ( فرع ) لو أخذ الكلب المعلم صيدا بغير إرسال ثم أخذه أجنبي من فمه يملكه الآخذ ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وحكى الرافعي فيه وجها شاذا أنه لا يملكه . واحتجوا للأول بما لو أخذ فرخ طائر من شجر غيره ، فإن الآخذ يملكه ، وأما الكلب الذي ليس بمعلم إذا أرسله صاحبه فأخذ صيدا فأخذه منه أجنبي وهو حي ، فقال الرافعي : ينبغي أن يكون للمرسل ، ويكون إرساله كنصب شبكة تغفل بها الصيد ، قال : فاحتمل خلافه لأن للكلب اختيارا .




                                      الخدمات العلمية