الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 115 ] 68- وقال: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) وليس قولك: (أو أشد) كقولك: "هو زيد أو عمرو " إنما هذه: (أو) التي في معنى الواو، نحو قولك: "نحن نأكل البر أو الشعير أو الأرز، كل هذا نأكل" فـ : (أشد) ترفع على خبر المبتدأ. إنما هو "وهي أشد قسوة" وقال بعضهم : (فهي كالحجارة) فأسكن الهاء وبعضهم يكسرها. وذلك أن لغة العرب في "هي" و"هو" ولام الأمر إذا كان قبلهن واو أو فاء أسكنوا أوائلهن. ومنهم من يدعها. قال: (وهو الله لا إله إلا هو) قال: (وهو العزيز الحكيم) . قال: (وليتوبوا) وقف وكسر. وقال: (فليعبدوا) . وقف وكسر.

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 116 ] باب إن وأن

                                                                                                                                                                                                                      69- قال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط) فهذه اللام لام التوكيد وهي منصوبة تقع على الاسم الذي تقع عليه "إن" إذا كان بينها وبين "إن" حشو نحو هذا. هو مثل: "إن في الدار لزيدا". وتقع أيضا في خبر "إن" وتصرف "إن" إلى الابتداء، تقول: "أشهد إنه لظريف "قال الله عز وجل : (والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) وقال: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير) وهذا لو لم يكن فيه اللام كان: "أن ربهم" لأن "أن" الثقيلة إذا كانت هي وما عملت فيه بمنزلة "ذاك" أو بمنزلة اسم فهي أبدا "أن" مفتوحة. وإن لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم فهي "إن" على الابتداء. ألا ترى إلى قوله: (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) يقول: "اذكروا هذا" وقال: (فلولا أنه كان من المسبحين للبث) لأنه يحسن في مكانه "لولا ذاك" وكل ما حسن فيه "ذاك" أن تجعله مكان "أن" وما عملت فيه فهو "أن". وإذا قلت : (يعلم إنك لرسوله) لم يحسن أن تقول: "يعلم لذاك". فإن قلت: "اطرح اللام أيضا وقل "يعلم ذاك" فاللام ليست مما عملت فيه "إن". وأما قوله: (إلا إنهم ليأكلون الطعام) فلم تنكسر هذه من أجل اللام لو لم تكن فيها لكانت "إن" أيضا؛ لأنه لا يحسن أن تقول: "ما أرسلنا قبلك إلا ذاك" و"ذاك" هو القصة. قال الشاعر [ كثير ]:

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 117 ]

                                                                                                                                                                                                                      (92) ما أعطياني ولا سألتهما إلا وإني لحاجزي كرمي

                                                                                                                                                                                                                      فلو ألقيت من هذه اللام أيضا لكانت "إن". وقال: (ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار) كأنه قال: "ذاك الأمر" وهذا قوله: (وأن للكافرين عذاب النار) تقع في مكانه "هذا". وقال: (ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين) كأنه على جواب من قال: "ما الأمر"؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون: "ذلكم" كأنه قال: "ذلكم الأمر وأن الله موهن كيد الكافرين" فحسن أن يقول: "ذلكم" و"هذا". وتضمر الخبر أو تجعله خبر مضمر. وقال: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) : (وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) لأنه يجوز أن تقول: "إن لك ذاك" و"هذا".

                                                                                                                                                                                                                      وهذه الثلاثة الأحرف يجوز فيها كسر "إن" على الابتداء. وقال: (فنادته الملائكة.... أن الله يبشرك) فيجوز أن تقول: "فنادته الملائكة بذاك" وإن شئت رفعته على الحكاية كأنه يقول: "فنادته الملائكة فقالت: "إن الله يبشرك" لأن كل شيء بعد القول حكاية، تقول: "قلت: " عبد الله منطلق"،

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 118 ] وقلت: "إن زيدا منطلق" إلا في لغة من أعمل القول من العرب كعمل الظن فذاك ينبغي أن يفتح "أن". وقال: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) فيزعمون أن هذا "ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" يقول: "فاتقون لأن هذه أمتكم" وهذا يحسن فيه كذاك، فإن قلت: "كيف تلحق اللام ولم تكن في الكلام". فإن طرح اللام وأشباهها من حروف الجر من "أن" حسن. ألا تراه يقول: "أشهد أنك صادق" إنما هو "أشهد على ذلك ". وقال: (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) يقول: "فلا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد لله"، وفي هذا الإعراب ضعف؛ لأنه عمل فيه ما بعده، أضافه إليه بحرف الجر. ولو قلت "أنك صالح بلغني" لم يجز، وإن جاز في ذلك. لأن حرف الجر لما تقدم ضميره قوي. وقد قرئ مكسورا. وقال بعضهم: "إنما هذا على: (أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) و"أوحي إلي أن المساجد لله" و"أوحي إلي أنه لما قام عبد الله ". وقد قرئ: (وأنه تعالى جد ربنا) ففتح كل "أن" تجوز فيه على الوحي.

                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم:(وإنه تعالى جد ربنا) فكسروها من قول الجن.

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 119 ] فلما صار بعد القول صار حكاية وكذاك ما بعده مما هو من كلام الجن.

                                                                                                                                                                                                                      وأما "إنما" فإذا حسن مكانها "أن" فتحتها، وإذا لم يحسن كسرتها. قال: (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي إنما إلهكم اله واحد) فالآخرة يحسن مكانها "أن" فتقول: "يوحى إلي أن إلهكم إله واحد" قال الشاعر: [ كثير ]:


                                                                                                                                                                                                                      (93) أراني - ولا كفران لله - إنما     أواخي من الأقوام كل بخيل

                                                                                                                                                                                                                      لأنه لا يحسن ها هنا "أن" لو قلت: "أراني إنما أواخي من الأقوام" لم يحسن. وقال: [ ابن الإطنابة ]:


                                                                                                                                                                                                                      (94) أبلغ الحارث بن ظالم المو     عد والناذر النذور عليا
                                                                                                                                                                                                                      أنما تقتل النيام، ولا تقـ     ـتل يقظان ذا سلاح كميا

                                                                                                                                                                                                                      فحسن أن تقول: "أنك تقتل النيام". وأما قوله عز وجل: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) فالآخرة بدل من الأولى.

                                                                                                                                                                                                                      وأما "إن" الخفيفة فتكون في معنى "ما" كقول الله عز وجل: (إن الكافرون إلا في غرور) أي: ما الكافرون. وقال: (إن كان للرحمن ولد) أي: ما كان للرحمن ولد: (فأنا أول العابدين) من هذه الأمة للرحمن، بنفي الولد عنه.

                                                                                                                                                                                                                      أي: أنا أول العابدين بأنه ليس للرحمن ولد. وقال بعضهم: (فأنا أول العبدين) يقول: "أنا أول من يغضب من ادعائكم لله ولدا".

                                                                                                                                                                                                                      ويقول: "عبد" "يعبد" "عبدا" أي: غضب. وقال: (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى "ما" وكذلك: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه) فـ "إن" بمنزلة "ما"، و"ما" التي قبلها بمنزلة "الذي".

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 120 ] وتكون للمجازاة نحو قوله: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) : (وإن تعفوا وتصفحوا) . وتزاد "إن" مع "ما"، يقولون: "ما إن كان كذا وكذا" أي: "ما كان كذا وكذا"، و: "ما إن هذا زيد". ولكنها تغير "ما" "فلا ينصب بها الخبر. وقال الشاعر [ فروة بن مسيك ]:


                                                                                                                                                                                                                      (95) وما إن طبنا جبن ولكن     منايانا وطعمة آخرينا

                                                                                                                                                                                                                      وتكون خفيفة في معنى الثقيلة وهي مكسورة ولا تكون إلا وفي خبرها اللام، يقولون: "إن زيد لمنطلق" ولا يقولونه بغير لام مخافة أن تلتبس بالتي معناها "ما". وقد زعموا أن بعضهم يقول: "إن زيدا لمنطلق" يعملها على المعنى وهي مثل: (إن كل نفس لما عليها حافظ) تقرأ بالنصب والرفع و "ما" زيادة للتوكيد، واللام زيادة للتوكيد وهي التي في قوله: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) ولكنها إنما وقعت على الفعل حين خففت كما تقع "لكن" على الفعل إذا خففت. ألا ترى أنك تقول: "لكن قد قال ذاك زيد". ولم يعروها من اللام في قوله: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) وعلى هذه اللغة فيما نرى - والله أعلم -: (إن هذان لساحران) وقد شددها قوم فقالوا: (إن هذان) وهذا لا يكاد يعرف إلا أنهم

                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 121 ] يزعمون أن بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا فيقولون: "رأيت أخواك" و"رأيت الرجلان" ووضعته علاه" و"ذهبت إلاه" فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ. وزعم أبو زيد أنه سمع أعرابيا فصيحا من بلحارث يقول: "ضربت يداه" و"وضعته علاه" يريد: يديه وعليه. وقال بعضهم: (إن هذين لساحران) وذلك خلاف الكتاب. قال الشاعر: [بعض أهل اليمن ]:


                                                                                                                                                                                                                      (96) طاروا عليهن فشل علاها     واشدد بمثنى حقب حقواها

                                                                                                                                                                                                                      ناجية وناجيا أباها

                                                                                                                                                                                                                      وأما "أن" الخفيفة فتكون زائدة مع "فلما" و"لما" قال: [ ص: 122 ] (فلما أن جاء البشير) وإنما هي "فلما جاء البشير" وقال: (ولما جاءت رسلنا) يقول: "ولما جاءت" وتزاد أيضا مع "لو" يقولون: "أن لو جئتني كان خيرا لك" يقول: "لو جئتني". وتكون في معنى "أي" قال: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا) يقول: "أي امشوا". وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله: (أن الحمد لله) و: (أن لعنة الله عليه) على قولك "أنه لعنة الله". و "أنه الحمد لله". وهذه بمنزلة قولك: (أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا) : (وحسبوا ألا تكون فتنة) ولكن هذه إذا خففت وهي إلى جنب الفعل لم يحسن إلا أن تكون معها "لا" حتى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والإضمار. ولا تعوض "لا" في قوله: (أن الحمد لله) لأنها لا تكون، وهي خفيفة، عاملة في الاسم. وعوضتها "لا" إذا كانت مع الفعل لأنهم أرادوا أن يبينوا أنها لا تعمل في هذا المكان وأنها ثقيلة في المعنى. وتكون "أن" الخفيفة تعمل في الفعل وتكون هي والفعل اسما للمصدر، نحو قوله: (على أن نسوي بنانه) إنما هي "على تسوية بنانه".

                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية