الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا

                                                          * * *

                                                          إن المنافقين يوالون الكفار ويجعلون الولاية لهم، ويجلسون معهم مستهزئين ساخرين معاندين الله تعالى مع أنه سبحانه وتعالى نزل في كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم أيها المخاطبون بالحقائق الإسلامية الذين يتحدثون ساخرين بالقرآن، فلا تقعدوا بل اتركوا مجلسهم وأعرضوا عنهم حتى يخوضوا أي يتكلموا في حديث غيره، والذي نزل في القرآن ونهى عن الجلوس مع الذين يستهزئون بما جاء به هو في سورة الأنعام المكية التي نزلت قبل سورة النساء المدنية، وهو قوله تعالى: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [الأنعام].

                                                          والخطاب في قوله تعالى: "عليكم" لعامة الذين يتلون القرآن الكريم من مؤمنين صادقين، ومنافقين، ومؤدى الكلام أنه من المنهي عنه أن يجلس المسلم مع مثير السخرية على آي القرآن، والمشركون يفعلون ذلك، ومع ذلك لا يكتفي المنافقون بهذا، بل إنهم يولونهم أمورهم، ويجعلون عزتهم منهم، ويكون ضمير الغيبة عائدا على الكافرين.

                                                          وبعض العلماء قال إن الخطاب للمنافقين وهو لا يخرج عن المعنى السابق.

                                                          وأرى أن الخطاب كله للمؤمنين، وفيه تحذير للمؤمنين من أن يجالسوا المنافقين إذا استهزءوا بآيات الله تعالى، وسخروا من الأحكام الإسلامية; لأن سماع الشر شر; ولأن سماع الاستهانة بالقرآن قد تؤدي إلى الاستهانة من السامع، فأول الشر سماع الشر، وإن أولئك المنافقين يبدو في مجالسهم كلمات الكفر وكلمات الاستهزاء. [ ص: 1912 ] وعلى ذلك يكون ضمير الخطاب للمؤمنين وضمير الغيبة للمنافقين والكافرين.

                                                          وقد بين سبحانه أن القعود مع الأشرار، وسماع كلمات الكفر والاستهزاء، يجعل المؤمن كالكافر والمنافق، ولذا قال سبحانه:

                                                          إنكم إذا مثلهم أي إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله تعالى وجحودها تكونون مثلهم في الاستهانة بكتاب الله تعالى ورسالة الرسول الأمين، والاستهانة بالأحكام الإسلامية، وقد رأينا ذلك عيانا، فإن أولئك الذين يجالسون الفرنجة ويقرءون ما يكتبون عن الإسلام، ويثيرون السخرية على أحكامه تسري إليهم العدوى، ولقد سمعنا بعض هؤلاء ممن يتسمى باسم إسلامي، وهو من أسرة إسلامية، يتهكم على قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين [النساء]، فلعنه الله تعالى، ولعنة الله على كل من لا يؤمن بسلامة هذه القضية، ولعنة الله على كل من ينكر ميراث القرآن أو يهون من شأنه.

                                                          وإن الآية يستفاد منها فوائد: أولها أن الاستهزاء بالحقائق القرآنية لا يقدم عليه مؤمن. وثانيها أن الاستماع إلى الكفر بها والاستهزاء يجعل السامع كالمتكلم; لأن السكوت لا يخلو من رضا ولو كان جزئيا، ثالثها أن الشر يسري من القائل إلى السامع كما يسري السم في الجسد، وكما يجري الشيطان في النفس.

                                                          وقد أكد سبحانه النهي عن مجالسة المنافقين بقوله تعالت كلماته: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا أي أنه إذا كان المنافقون يطلبون العزة من الكافرين، ويطلبون الولاء والنصرة منهم ويحاولون بذلك أن يجتمعوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإن الله سبحانه وتعالى جامعهم في الذل والهوان، لا في العز والاستمكان، إنه جامعهم في جهنم جميعا بلا استثناء قط; لأنهم تحدوا الله ورسوله، ولأنهم جحدوا بآيات الله تعالى وسخروا منها، ولأن كلمة الكفر تجمعهم وتفرقهم في النوع لا في الأصل. فإن الكفار قسمان: قسم أعلن الكفر [ ص: 1913 ] والمناوأة وأولئك أقوياء الكفار، وقسم كفر وغش وخدع، فادعى الإسلام، وكلاهما في جهنم وإن كان المنافق في الدرك الأسفل منها.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية