الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 136 ] ومنكر حكم الإجماع الظني لا يكفر ، وفي القطعي النفي والإثبات ، والثالث يكفر بإنكار مثل الصلوات الخمس دون غيرها ، وارتداد الأمة جائز عقلا لا سمعا في الأصح لعصمتها من الخطأ ، والردة أعظمه .

                التالي السابق


                قوله : " ومنكر حكم الإجماع الظني لا يكفر ، وفي القطعي النفي والإثبات ، والثالث : يكفر بإنكار مثل الصلوات الخمس دون غيرها " .

                اعلم أن الإجماع إما ظني ، أو قطعي :

                فالظني كالسكوتي تواترا أو آحادا ، وكالنطقي آحادا ، فهذا لا يكفر منكر حكمه ، أي : إذا ثبت بمثل هذا الإجماع حكم ، فأنكره منكر لا يكفر ، لأنه مظنون ، فلم يكفر منكر حكمه ، كالعموم ، وخبر الواحد ، والقياس ، وسنزيد ذلك تقريرا إن شاء الله تعالى .

                والقطعي : هو النطقي المتواتر المستكمل الشروط ، كما سبق ، ففيه أقوال :

                أحدها : لا يكفر منكر حكمه ، لما سيقرر بعد إن شاء الله تعالى .

                وثانيها : أنه يكفر ، لأنه خالف القاطع ، فأشبه ما لو خالف العقلي القاطع بإثبات الصانع ، وتوحيده ، وإرسال الرسل .

                [ ص: 137 ] وثالثها : أن ما ثبت بالإجماع كونه من الدين ضرورة ، كالصلوات الخمس ، والأركان الخمسة ونحوها ، كفر منكره ، وما ليس كذلك لا يكفر بإنكاره .

                والفرق : أن الأول يتحقق تكذيبه لصاحب الشريعة ، دون الثاني ، لجواز كون ما أنكره يخفى عليه ، بخلاف مثل الصلوات الخمس ، فإن وجوبها لا يخفى على مسلم ، بل الكفار يعلمون وجوبها على أهلها .

                وقال الآمدي : إن كان حكم الإجماع داخلا في مسمى الإسلام كالرسالة ، كفر منكر حكمه ، وإلا فلا .

                قلت : هذا أخص من الذي قبله ، والذي قبله أولى منه ، لأنه تكذيب صاحب الشريعة ، وما لزمه مستقل بالتكفير ، فلا حاجة لنا إلى تخصيصه بما كان داخلا في مسمى الإسلام ، إذ لو سوغ ذلك ، لأفضى إلى تكذيب صاحب الشرع في أمور كثيرة بدون تكفير ذلك المكذب ، وهو إهمال لحرمة الشرع ، وتضييع لناموسه .

                قلت : المختار أن منكر حكم الإجماع إن كان عاميا ، كفر مطلقا ، ظنيا كان الإجماع أو قطعيا ، إذا كان قد اشتهر الإجماع عليه ، وعلمه المنكر ، واعتقد تحريم إنكاره ، وإن كان عالما ، يفرق بين أنواع الإجماع ، ويتصرف في الأدلة ، لم يكفر إلا بإنكار مثل الأركان الخمسة ، والصلوات الخمس ، لجواز أن يقوم الدليل عنده على عدم وجوب ما أنكره .

                وقال القرافي : إذا قلنا بتكفير مخالف الإجماع ، فهو مشروط بأن يكون [ ص: 138 ] المجمع عليه ضروريا من الدين .

                قلت : هذا يدل على أنه لا يكفر بمخالفة ما ليس ضروريا قولا واحدا ، ولعله مذهبه أو اختياره ، وإلا فالخلاف الذي حكيناه مطلقا ثابت .

                قلت : مأخذ الخلاف في تكفير منكر حكم الإجماع : هو أن الإجماع ظني أو قطعي ؟ فمن قال : إنه ظني ، قال : لا يكفر كالقياس وخبر الواحد ، وحجته أن مستند أصل الإجماع هو ما سبق من ظواهر الآيات والأخبار التي لا تفيد إلا الظن ، وما استند إلى الظن أولى أن يكون ظنيا .

                ومن قال : إنه قطعي ، قال : إن مستند الإجماع قاطع ، وما استند إلى القاطع ، فهو قاطع .

                وإنما قلنا : إنه مستند إلى قاطع ، لأن جزئيات أدلته لو استقرئت استقراء تاما ، لاجتمع منها الدليل القاطع على أن الإجماع حجة ، لكن استقراءها الاستقراء التام بحيث لا يشذ منها شيء متعذر ، كما أن استقراء الحكايات الجزئية الدالة على سخاء حاتم استقراء تاما متعذر ، فلذلك نبه العلماء في كتبهم بأدلة جزئية على تلك الأدلة الحاصلة من الاستقراء التام لو أمكن .

                قال : والغفلة عن هذا التقرير هي الموجب لأسئلة وردت على [ ص: 139 ] الإجماع ، لكونه ظنيا ، وكون مخالفه لا يكفر ، وهي مندفعة بهذا التقرير .

                قلت : هذا التقرير ضعيف من جهة أن الإجماع أقوى أصول الإسلام ، ولذلك قدم على النص والقياس ، فهو لعلو رتبته في أدلة الشريعة يقتضي توفر دواعي الأمة على ضبط أدلته ، وحفظ مستنده ، إذ من الممتنع عادة تضييع مثل ذلك ، وذلك يدل على أنه ليس للإجماع دليل إلا ما ذكره العلماء في كتبهم . وقد سبق ذكره وبيان ضعف الدلالة منه .

                وأما ما ذكر من حكايات حاتم ، فلا نسلم أنه يتعذر استقراؤها أو استقراء ما يحصل به تواتر سخائه منها ، إذ كلها أو أكثرها منقولة مدونة في ديوان حاتم وغيره من كتب التواريخ وغيرها ، لكن علماء الشرع لعدم اهتمامهم بها لم يعتنوا بها حتى تتواتر بينهم وتشتهر ، وقد اشتهرت عند الإخباريين العلماء بأيام العرب .

                أما أحاديث الإجماع وأدلته ، فهم بالضرورة معتنون بها ، مهتمون غاية الاهتمام ، فالمانع لهم من نقلها عادة ليس إلا عدمها ، وأنا ذاكر لك إن شاء الله - سبحانه وتعالى - فصلا ذكرته في " القواعد الصغرى " في هذا الباب يحقق كون الإجماع ظنيا ، وهو أني قلت هناك : ومن العدل الترجيح ، وهو العمل بأقوى الدليلين ، وإلغاء الضعيف . وهذا كثير في ترجيحات الأصول والفروع ، كترجيح القاطع على الظني ، والخبر الأصح على الصحيح ، والصحيح على الضعيف ، ومن ذلك أن مخالف الإجماع ومنكر حكمه لا يكفر ، ما لم [ ص: 140 ] ينكر ضروريا من الدين كما سبق وقرر ذلك : بأن جريان حكم الإسلام عليه محقق مقطوع به ، فلا يرفع بالإجماع المحتمل ، وبيان احتماله : أن الإجماع مبني على مقدمات محتملة ، والمبني على المحتمل محتمل .

                أما المقدمات ، فهي ظواهر الكتاب ، نحو : ومن يشاقق الرسول [ النساء : 115 ] الآية ، وأحاديث السنة .

                أما ظواهر الكتاب ، فإنها إنما صح التمسك بها بالإجماع ، فلو ثبت الإجماع بها ، لزم الدور .

                وأما السنة ، فليست متواترة تواترا حقيقيا بالاتفاق ، وكونه تواترا معنويا ، كشجاعة علي ، وسخاء حاتم ، وبين قوله - عليه السلام - : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، أمتي لا تجتمع على ضلالة ونحوهما ، وإن الأول أقوى من الثاني ، وحيث الأول تواتر ; فالثاني ليس بتواتر ، فهو آحاد . وقد اختلف الناس في العمل بخبر الواحد على مذاهب مختلفة ، وغايته أن يكون مستفيضا ، والمستفيض لا يفيد العلم الذي يقوى على رفع عصمة الدماء .

                وقولهم : تلقته الأمة بالقبول ، وهي معصومة ، إثبات الإجماع بالإجماع ، لأن معنى كون الإجماع حجة ، هو كونه صادرا عن الأمة المعصومة ، وحينئذ يصير تقدير الكلام : أن الإجماع صدر عن الأمة المعصومة ، لأن [ ص: 141 ] هذه الأمة المعصومة تلقت أدلته بالقبول ، وهو إثبات الشيء بنفسه ، وهو محال .

                سلمنا أن الخبر متواتر ، لكن النزاع في دلالته .

                فقوله : ما رآه المسلمون ، اللام إما للعهد ، وهم قوم معهودون بينه - عليه السلام - وبين من خاطبه ، فلا يدل على الإجماع ، أو للاستغراق ; فهو عام ، ودلالة العام ظنية ، ثم قد خص بمن قبل عصر الإجماع وبعده ، وبالصبيان ، والمجانين ، والعامة عند الأكثرين ، فصار عاما مخصوصا ، وفي كونه حجة ، أو غير حجة ، وحقيقة في الباقي ، أو مجازا ، خلاف مشهور سبق ، ثم قوله : " حسنا " يحتمل الواجب والمندوب ، وهو فيه أظهر ، ولا دلالة له على الإجماع أصلا ، فإنما يدل على الاستحسان ، به احتج أبو حنيفة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهو بلفظه أشبه ، إذ هو من مادته لفظا .

                وأما قوله : لا تجتمع أمتي على ضلالة يحتمل أنه أراد بالضلالة : الكفر ، ويكون شهادة لها بالأمن من الارتداد بالكلية ، وليس في ذلك دلالة على أن الإجماع قاطع ، ثم صرنا إلى نفس الإجماع ، فنقول : نازع قوم في تصوره وإمكانه ، ثم في كونه حجة ، ثم في أنه مختص بالصحابة ، أو صحيح من غيرها أيضا ، ثم في أن العصمة لهيئة الأمة الاجتماعية ، فتعتبر [ ص: 142 ] العامة أو لا ، وفي غير ذلك من أحكامه مما سبق في السكوتي ، وقد سبق معناه ، فقيل : حجة وإجماع ، وقيل : لا حجة ولا إجماع ، وقيل : حجة فقط ، وقيل : إجماع بشرط انقراض العصر ، وقيل : إن كان فتيا لا حكما .

                ثم قولكم : هو حجة قاطعة ، ما المراد به ؟ إن أردتم القطع العقلي ، وهو ما لا يحتمل النقيض ، فهو مع هذا الخلاف العظيم في مقدماته ممتنع ، وإن أردتم أنه موجب للعمل ، فذلك إنما يوجب تعصية مخالفه ومنكر حكمه .

                أما الحكم بكفره مع القطع بجريان حكم الإسلام عليه بدليل في مقدمات هذا النزاع ، فهو دفع للأقوى بالأضعف ، وهو مناف للعدل .

                واعلم أن القول بتكفيره مطلقا أحوط للشريعة ، وبعدمه مطلقا ، أو بالتفصيل السابق أحوط للدماء .

                وأن النزاع إنما هو في التكفير ، أما قتله حدا باجتهاد إمام ، أو مجتهد ، أو بفعل أو بترك ما يوجبه كالزاني المحصن ، أو تارك الصلاة تهاونا لا جحودا ، فلا نزاع في جوازه .

                واعلم أني إنما ذكرت لك هذا الفصل ، وإن كانت أكثر أحكامه قد سبقت لفائدتين :

                إحداهما : ترجيح ما اخترته من كون الإجماع ظنيا .

                والثانية : أني جعلته لك دستورا للإجماع ، تطرية لذهن الناظر به ، [ ص: 143 ] وتذكيرا ، ليتذكر به آخرا ما سبق منه أولا ، وإنما لم أفعل ذلك في آخر كل باب ، لعدم المقتضي لذكره ، بخلاف هاهنا ، فإنه عرض ما اقتضى ذكر ذلك .

                وعلى القول بتكفير منكر حكم الإجماع بالجملة سؤال ، وهو : كيف تكفرون منكر حكم الإجماع ، ولم تكفروا منكر أصل الإجماع ، كالنظام والشيعة والخوارج ؟

                وأجيب عنه : بأن منكر أصل الإجماع لم يستقر عنده كونه حجة ، فلا يتحقق منه تكذيب صاحب الشريعة ، بخلاف منكر حكمه بعد اعترافه بكونه حجة ، فإنه يتحقق منه ذلك ، فأخذ بإقراره ، والله أعلم .



                قوله : " وارتداد الأمة جائز عقلا لا سمعا في الأصح " أي : ارتداد الأمة الإسلامية كفرة ، في عصر من الأعصار " جائز عقلا " أي : ممكن في العقل غير ممتنع ، لأنه لو فرض تصوره لم يلزم منه محال لذاته .

                أما جوازه من حيث السمع ، أي : من حيث دلالة الدليل السمعي عليه ، فاختلف فيه ، فالأصح كما ذكر في " المختصر " أنه لا يجوز ، وهو اختيار الآمدي ، لأنها معصومة من الخطأ بأدلة الإجماع السابقة ، والردة أعظم الخطأ ، فتكون معصومة منها ، فلا يجوز عليها ، وثم أحاديث أخر تؤكد ذلك .

                منها : ما روى معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا فسد أهل الشام ، فلا خير فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من [ ص: 144 ] خذلهم حتى تقوم الساعة رواه ابن ماجه والترمذي وصححه .

                وفي الصحيحين معناه من حديث المغيرة .

                ولمسلم من حديث ثوبان : لا تزال طائفة من أمتي الحديث .

                وله من حديث سعد : لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة .

                ولأبي داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها .

                وهذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من جنسها تدل على استمرار الدين إلى قيام الساعة ، ويلزم من ذلك عدم ارتداد الأمة جميعها في وقت ما ، وهو المطلوب .

                واحتج الآخرون بما روي عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله . رواه الترمذي وقال : [ ص: 145 ] حديث حسن ، ومسلم ولفظه : لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله .

                ولمسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى لكن هذا لا يدل على ارتداد جميع الأمة ، بل يصدق مضمونه بردة بعضها ، وعبادته اللات والعزى ، وإنما الحجة في حديث أنس - رضي الله عنه - ، لأن ارتداد الأمة يلزمه قطعا ، وإلا لو قامت الساعة على من يقول : الله الله ، ولو واحدا ، فلا يصدق الحديث إذن .

                قلت : أحسن ما جمع به بين هذه الأحاديث : أن تحمل الأحاديث الأول على استمرار الدين إلى قبيل الساعة بمدة يسيرة ، ثم ترتد الأمة ، أو تنقرض ، ويخلفها من لا يذكر الله ، ولا يعرفه ، فتقوم الساعة عليه .

                على أن انقراض الأمة لا يتجه ، لأنها آخر الأمم ، وعليها تقوم الساعة ، لكنها ترتد لكثرة الفتن ، وطول العهد ، كما كفرت بنو إسرائيل بعد طول عهدها بأنبيائها وكتبها ، وارتدادها قبل قيام الساعة بمدة يسيرة ; لا يقدح في صحة قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة لأن الزمان اليسير يغتفر في الأحكام والأخبار ، والله [ ص: 146 ] سبحانه وتعالى أعلم .

                تنبيه : اختلف الأصوليون في أن الأمة هل يتصور اشتراكها في الجهل بدليل لا معارض له ، والأصح أنه إن قدر عملها على وفق ذلك الدليل ، جاز اشتراكها في عدم العلم به ، لأنه حينئذ يصير كالوسيلة مع المقصد ، وإن قدر عملها على خلافه ، لم يجز ، لعصمتها من الإجماع على الخطأ ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية