الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب في غزوة حنين

                                                                                                                1775 وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال حدثني كثير بن عباس بن عبد المطلب قال قال عباس شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال عباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عباس ناد أصحاب السمرة فقال عباس وكان رجلا صيتا فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا يا لبيك يا لبيك قال فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال انهزموا ورب محمد قال فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا وحدثناه إسحق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد جميعا عن عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري بهذا الإسناد نحوه غير أنه قال فروة بن نعامة الجذامي وقال انهزموا ورب الكعبة انهزموا ورب الكعبة وزاد في الحديث حتى هزمهم الله قال وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته وحدثناه ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال أخبرني كثير بن العباس عن أبيه قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين وساق الحديث غير أن حديث يونس وحديث معمر أكثر منه وأتم

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                حنين واد بين مكة والطائف وراء عرفات ، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا ، وهو مصروف كما جاء به القرآن العزيز .

                                                                                                                قوله : ( قال عباس : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ) أبو سفيان هذا هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال جماعة من العلماء : اسمه هو كنيته ، وقال آخرون : اسمه المغيرة ، وممن قاله هشام بن الكلبي ، وإبراهيم بن المنذر ، والزبير بن بكار وغيرهم ، وفي هذا عطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد ، وذب بعضهم عن بعض .

                                                                                                                قوله : ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي ) أما قوله : ( بغلة بيضاء ) فكذا قال في هذه الرواية ، ورواية أخرى بعدها : ( إنها بغلة بيضاء ) وقال في آخر الباب : ( على بغلته الشهباء ) وهي واحدة ، قال العلماء : لا يعرف له صلى الله عليه وسلم بغلة سواها ، وهي التي يقال لها : ( دلدل ) وأما قوله : ( أهداها له فروة بن نفاثة ) فهو بنون مضمومة ثم فاء مخففة ثم ألف ثم ثاء مثلثة ، وفي الرواية التي بعدها رواية إسحاق بن إبراهيم قال : ( فروة بن نعامة ) بالعين والميم ، والصحيح المعروف الأول ، قال القاضي : واختلفوا في إسلامه فقال الطبري : أسلم وعمر عمرا طويلا ، وقال غيرهم : لم يسلم ، وفي صحيح البخاري أن الذي أهداها له ملك أيلة ، واسم ملك أيلة فيما ذكره ابن إسحاق : ( يحنة بن روبة ) ، والله أعلم .

                                                                                                                فإن قيل : ففي هذا الحديث قبوله صلى الله عليه وسلم هدية الكافر ، وفي الحديث الآخر : هدايا العمال غلول مع حديث ابن اللتبية - عامل الصدقات - وفي الحديث الآخر أنه رد بعض هدايا المشركين وقال : إنا لا نقبل زبد المشركين أي رفدهم فكيف يجمع بين هذه الأحاديث ؟ قال القاضي - رضي الله عنه - : قال بعض العلماء : إن هذه الأحاديث ناسخة لقبول الهدية ، قال : وقال الجمهور : لا نسخ ، بل سبب القبول أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال ، بخلاف غيره ، فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين ، وكافأ بعضهم ورد هدية من لم يطمع في إسلامه ولم يكن في قبولها مصلحة ; لأن الهدية توجب المحبة والمودة ، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من العمال والولاة فلا يحل له قبولها لنفسه عند جمهور العلماء ، فإن قبلها كانت فيئا للمسلمين ، فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم ، وإن كانت من قوم هو محاصرهم ، فهي غنيمة ، قال القاضي : وهذا قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن [ ص: 456 ] وابن القاسم وابن حبيب وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم ، وقال آخرون : هي للإمام خالصة ، به قال أبو يوسف وأشهب وسحنون ، وقال الطبري : إنما رد النبي صلى الله عليه وسلم من هدايا المشركين ما علم أنه أهدي له في خاصة نفسه ، وقيل : ما كان خلاف ذلك مما فيه استئلاف المسلمين ، قال : ولا يصح قول من ادعى النسخ ، قال : وحكم الأئمة بعد إجراؤها مجرى مال الكفار من الفيء أو الغنيمة بحسب اختلاف الحال ، وهذا معنى " هدايا العمال غلول " أي إذا خصوا بها أنفسهم ; لأنها لجماعة المسلمين بحكم الفيء والغنيمة ، قال القاضي : وقيل : إنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية كالمقوقس وملوك الشام فلا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم " لا يقبل زبد المشركين " وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان ، هذا آخر كلام القاضي عياض ، وقال أصحابنا : متى أخذ القاضي أو العامل هدية محرمة لزمه ردها إلى مهديها ، فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال . والله أعلم .

                                                                                                                قوله : ( ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء ) قال العلماء : ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات ، ولأنه أيضا يكون معتمدا يرجع المسلمون إليه وتطمئن قلوبهم به وبمكانه ، وإنما فعل هذا عمدا وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة ، ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته صلى الله عليه وسلم تقدمه يركض بغلته إلى جمع المشركين ، وقد فر الناس عنه . وفي الرواية الأخرى : أنه نزل إلى الأرض حين غشوه ، وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر ، وقيل : فعل ذلك مواساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين ، وقد أخبرت الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن ، وفي صحيح مسلم قال : إن الشجاع منا الذي يحاذي به ، وإنهم كانوا يتقون به .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( أي عباس ناد أصحاب السمرة ) هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان ، ومعناه : ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية .

                                                                                                                قوله : ( فقال عباس وكان رجلا صيتا ) ذكر الحازمي في المؤتلف أن العباس - رضي الله تعالى عنه - كان يقف على سلع فينادي غلمانه في آخر الليل وهم في الغابة فيسمعهم ، قال : وبين سلع والغابة ثمانية أميال .

                                                                                                                قوله : ( فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا : يا لبيك يا لبيك ) قال العلماء : في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيدا ، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم ، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة ، ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا ، وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام ، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه ، وممن يتربص [ ص: 457 ] بالمسلمين الدوائر ، وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة فتقدم إخفاؤهم فلما رشقوهم بالنبل ولوا فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين كما ذكر الله تعالى في القرآن .

                                                                                                                قوله : ( فاقتتلوا والكفار ) هكذا هو في النسخ ، وهو بنصب الكفار أي مع الكفار .

                                                                                                                قوله : ( والدعوة في الأنصار ) هي بفتح الدال يعني الاستغاثة والمناداة إليهم .

                                                                                                                قوله صلى الله عليه وسلم : ( هذا حين حمي الوطيس ) هو بفتح الواو وكسر الطاء المهملة وبالسين المهملة ، قال الأكثرون : هو شبه التنور يسجر فيه ، ويضرب مثلا لشدة الحرب التي يشبه حرها حره ، وقد قال آخرون : الوطيس هو التنور نفسه ، وقال الأصمعي : هي حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطأ عليها فيقال : الآن حمي الوطيس ، وقيل : هو الضرب في الحرب ، وقيل : هو الحرب الذي يطيس الناس أي يدقهم ، قالوا : وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه ، الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                قوله : ( فرماهم بالحصيات ثم قال : انهزموا ورب محمد فما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا ) هذا فيه معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إحداهما فعلية ، والأخرى خبرية ، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بهزيمتهم ، ورماهم بالحصيات ، فولوا مدبرين ، وذكر مسلم في الرواية الأخرى في آخر هذا الباب أنه صلى الله عليه وسلم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل بها وجوههم فقال : شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة ، وهذا أيضا فيه معجزتان خبرية ، وفعلية ، ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وقبضة من تراب ، فرمى بذا مرة ، وبذا مرة ، ويحتمل أنه أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب .

                                                                                                                [ ص: 458 ] قوله : ( فما زلت أرى حدهم كليلا ) هو بفتح الحاء المهملة أي ما زلت أرى قوتهم ضعيفة .




                                                                                                                الخدمات العلمية