الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( والفتح ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( والفتح ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : نقل عن ابن عباس أن الفتح هو فتح مكة ، وهو الفتح الذي يقال له : فتح الفتوح ، روي أنه لما كان صلح الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار بعض من كان في عهد قريش على خزاعة وكانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء سفير ذلك القوم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليه ، ثم قال : أما إن هذا العارض ليخبرني أن الظفر يجيء من الله ، ثم قال لأصحابه : انظروا فإن أبا سفيان يجيء ويلتمس أن يجدد العهد فلم تمض ساعة أن جاء الرجل ملتمسا لذلك فلم يجبه الرسول ولا أكابر الصحابة فالتجأ إلى فاطمة فلم ينفعه ذلك ، ورجع إلى مكة آيسا وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسير لمكة ، ثم يروى أن سارة - مولاة بعض بني هاشم - أتت المدينة فقال عليه السلام لها : جئت مسلمة ؟ قالت : لا لكن كنتم الموالي وبي حاجة ، فحث عليها رسول الله بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بعشرة دنانير واستحملها كتابا إلى مكة نسخته : اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام وعمارا في جماعة وأمرهم أن يأخذوا الكتاب وإلا فاضربوا عنقها ، فلما أدركوها جحدت وحلفت فسل علي عليه السلام سيفه ، وقال والله : ما كذبنا فأخرجته من عقيصة شعرها ، واستحضر النبي حاطبا وقال : ما حملك عليه ؟ فقال : والله ما كفرت منذ أسلمت ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، لكن كنت غريبا في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، ففاضت عينا عمر ، ثم خرج رسول الله إلى أن نزل بمر الظهران ، وقدم العباس وأبو سفيان إليه فاستأذنا فأذن لعمه خاصة فقال أبو سفيان : إما أن تأذن لي وإلا أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعا وعطشا فرق قلبه ، فأذن له وقال له : ألم يأن أن تسلم وتوحد ؟ فقال : أظن أنه واحد ، ولو كان ههنا غير الله لنصرنا ، فقال : ألم يأن أن تعرف أني رسوله ؟ فقال : إن لي شكا في ذلك ، فقال العباس : أسلم قبل أن يقتلك عمر ، فقال : وماذا أصنع بالعزى ؟ فقال عمر : لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك ، فقال : يا محمد أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش وتصالح قومك وعشيرتك ؟ فسكان مكة عشيرتك وأقاربك ، و ( لا ) تعرضهم للشن والغارة ، فقال عليه السلام : هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي ، وأهل مكة أخرجوني وظلموني ، فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم ، وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر ، فكانت الكتيبة تمر عليه ، فيقول من هذا ؟ فيقول العباس : هو فلان من أمراء الجند إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلا الحدق ، فسأل عنهم ، فقال العباس : هذا رسول الله ، فقال : لقد أوتي ابن أخيك ملكا عظيما ، فقال العباس : هو النبوة ، فقال هيهات النبوة ، ثم تقدم [ ص: 143 ] ودخل مكة ، وقال : إن محمدا جاء بعسكر لا يطيقه أحد ، فصاحت هند وقالت : اقتلوا هذا المبشر ، وأخذت بلحيته فصاح الرجل ودفعها عن نفسه ، ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر ، وكانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعا شديدا وسأل العباس ، فأخبره بأمر الصلاة ، ودخل رسول الله مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعا وشكرا ، ثم التمس أبو سفيان الأمان ، فقال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فقال : ومن تسع داري ، فقال : ومن دخل المسجد فهو آمن ، فقال : ومن يسع المسجد ، فقال : من ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب المسجد ، وقال : لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ثم قال : يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم ؟ فقالوا : خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ، فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء فأعتقهم ؛ فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ، ومن ذلك كان علي عليه السلام يقول لمعاوية : أنى يستوي المولى والمعتق يعني أعتقناكم حين مكننا الله من رقابكم ولم يقل : اذهبوا فأنتم معتقون ، بل قال : الطلقاء ؛ لأن المعتق يجوز أن يرد إلى الرق ، والمطلقة يجوز أن تعاد إلى رق النكاح وكانوا بعد على الكفر ، فكان يجوز أن يخونوا فيستباح رقهم مرة أخرى ؛ ولأن الطلاق يخص النسوان ، وقد ألقوا السلاح وأخذوا المساكن كالنسوان ؛ ولأن المعتق يخلى سبيله يذهب حيث شاء ، والمطلقة تجلس في البيت للعدة ، وهم أمروا بالجلوس بمكة كالنسوان ، ثم إن القوم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فصاروا يدخلون في دين الله أفواجا ، روي أنه عليه السلام صلى ثمان ركعات : أربعة صلاة الضحى ، وأربعة أخرى شكرا لله نافلة ، فهذه هي قصة فتح مكة .

                                                                                                                                                                                                                                            والمشهور عند المفسرين أن المراد من الفتح في هذه السورة هو فتح مكة ، ومما يدل على أن المراد بالفتح فتح مكة أنه تعالى ذكره مقرونا بالنصر ، وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر ، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير ، فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم ، أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح ، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن المراد فتح خيبر ، وكان ذلك على يد علي عليه السلام ، والقصة مشهورة ، روي أنه استصحب خالد بن الوليد ، وكان يساميه في الشجاعة ، فلما نصب السلم قال لخالد : أتتقدم ؟ قال : لا ، فلما تقدم علي عليه السلام سأله كم صعدت ؟ فقال : لا أدري لشدة الخوف ، وروي أنه قال لعلي عليه السلام ألا تصارعني ؟ فقال : ألست صرعتك ؟ فقال : نعم لكن ذاك قبل إسلامي ، ولعل عليا عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه علي ، أو كان علي يقول : صرعتك حين كنت كافرا ، أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثالث : أنه فتح الطائف وقصته طويلة .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الرابع : المراد النصر على الكفار ، وفتح بلاد الشرك على الإطلاق ، وهو قول أبي مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الخامس : أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم ، ومنه قوله : ( وقل رب زدني علما ) [ طه : 114 ] لكن حصول العلم لا بد وأن يكون مسبوقا بانشراح الصدر وصفاء القلب ، وذلك هو المراد من قوله : ( إذا جاء نصر الله ) ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات ، والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : إذا حملنا الفتح على فتح مكة ، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن فتح مكة كان سنة ثمان ، ونزلت هذه السورة سنة عشر ، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما ، ولذلك سميت سورة التوديع

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة ، وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة ، وأن يفتحها عليه ، ونظيره قوله تعالى : ( إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ) [ ص: 144 ] [ القصص : 85 ] وقوله : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) يقتضي الاستقبال ، إذ لا يقال فيما وقع : إذا جاء وإذا وقع ، وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له ، والإخبار عن الغيب معجز ، فإن قيل : لم ذكر النصر مضافا إلى الله تعالى ، وذكر الفتح بالألف واللام ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : الألف واللام للمعهود السابق ، فينصرف إلى فتح مكة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية