الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [ ص: 146 ] قوله تعالى : ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) فيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار ، ولهذا الترتيب فوائد :

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمدا كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ؟ ولم سلطت هؤلاء الكفرة علي ؟ فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح ، أما على قولنا : فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئا بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية ، فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه الله عن أن يستحق عليه أحد شيئا ، وأما على قول المعتزلة : ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق ، ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه الله عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر ، ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أن للسائرين طريقين فمنهم من قال : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده ، ومنهم من قال : ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله ، ولا شك أن هذا الطريق أكمل ، أما بحسب المعالم الحكمية ، فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر ، وأما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود ، فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة ، ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل ، وإذا ثبت هذا فنقول : الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولا من الخالق أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : التسبيح .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : التحميد ، ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات ، والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال ، والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له ، وهي صفات الإكرام ، ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام ، ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار ؛ لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس ، وفيه رؤية جود الحق ، وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس ، ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير الله يبقى محروما عن مطالعة حضرة جلال الله ، فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية ، وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل : آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ البقرة : 30 ] فقوله ههنا : ( فسبح بحمد ربك ) إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم : ( ونحن نسبح بحمدك ) [ البقرة : 30 ] وقوله ههنا : ( واستغفره ) إشارة إلى قوله تعالى : ( ونقدس لك ) لأنهم فسروا قوله : ( ونقدس لك ) أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك ، والاستغفار يرجع معناه أيضا إلى تقديس النفس ، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم ، وأما أنت فسبح بحمدي ، واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني ، ويحتمل أن يقال : الملائكة كما قالوا في حق أنفسهم : [ ص: 147 ] ( ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) قال الله في حقهم : ( ويستغفرون للذين آمنوا ) [ غافر : 7 ] فأنت يا محمد استغفر للذين جاءوا أفواجا كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون : ربنا ( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) [ غافر : 7 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : التسبيح هو التطهير ، فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة من الأصنام وكسرها ثم قال : ( بحمد ربك ) أي ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك ، وإعانته وتقويته ، ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتيا بالطاعة اللائقة به ، بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة ، فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الخامس : كأنه تعالى يقول : يا محمد إما أن تكون معصوما أو لم تكن معصوما فإن كنت معصوما فاشتغل بالتسبيح والتحميد ، وإن لم تكن معصوما فاشتغل بالاستغفار ، فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ الحجر : 99 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية