الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وأما الثانية ، وهي إرادة صرف الصيغة من غير جهة الأمر إلى جهة الأمر فاختلف فيه أصحابنا ، فذهب المتكلمون إلى اعتبارها ، وذهب الفقهاء منهم إلى أنه لا تعتبر ، لكن إذا وردت الصيغة مجردة عن القرائن حملت عليه . وأما الثالثة : فهي محل الخلاف بيننا وبين المعتزلة فاتفق أصحابنا على أنه لا تعتبر ، واتفق المعتزلة على اعتبارها . قال : وهو ينبني على أصل كبير بيننا وبينهم ، وهو أن الكائنات بأسرها وحيزها لا تجري عندنا إلا بإرادة الله . وأما المازري فنقل عن المعتزلة اشتراط الإرادات الثلاث إلا الكعبي فإنه لم يعتبر الأولى . قال المقترح " : فمذهب الكعبي متهافت فإنه نفي للإرادة عن القديم تعالى ، ويلزم أن لا يكون الباري - تعالى - آمرا . وفيه رفض الشرائع عن آخرها ، ولما قيل له : إن الكتاب والسنة طافح بنسبة الإرادة إليه تعالى ، فكيف جوابك ؟ قال : إن أريد بأنه مريد لأفعاله كان معناه أنه خالقها ومنشئها ، وإن أريد أنه مريد لأفعال عباده كان معناه أنه أمر بها ، وهذا [ ص: 267 ] الكلام ظاهر التناقض من جهة أنه يشترط في حقيقة الأمر الإرادة ، ثم يجعل إطلاق الإرادة في حق الله تعالى بمعنى الآمر . ولمن ينتصر للكعبي أن يقول : هو لم ينفها غايته أنه لم يشترطها ، ولا يلزم من عدم الاشتراط النفي .

                                                      الثانية : أنه عندنا غير الإرادة لأنه قد يقوم بالنفس عند الطلب معنى غير إرادة الفعل فإنا نجد الآمر يأمر بما لا يريد ، وهو آمر ، وإلا لما عد تاركه مخالفا . وقالت المعتزلة : هو إرادة المأمور به ، ويلزمهم أحد أمرين : إما أن تكون المعاصي الواقعة مأمورا بها ; لأنها مرادة ، أو لا يكون وقوعها بإرادة الله - تعالى - وكل منهما محال . وللتخلص من هذه الورطة صار أصحابنا إلى التغاير بينهما ، لكن لهم أن يقولوا : لا نسلم أن الأمر بما لا يريده حقيقة ، غاية ما في الباب أن صيغته صيغة الأمر ، وقد يمنع بما سبق فإنه يعد تاركه مخالفا . وعندي : أن الخلاف لم يتوارد على محل واحد فإنا نريد بالإرادة الطلب النفسي الذي لا يتخلف ، والمعتزلة لا يريدون ذلك لإنكارهم كلام النفس ، وإنما يقولون : إن الواضع وضع هذه اللفظة للطلب الذي يعرفه كل واحد ، وذلك هو الإرادة ، فعلمنا أن هذه الصيغة موضوعة للإرادة .

                                                      وقالوا : الطلب الذي يغاير الإرادة لو صح القول به لكان أمرا خفيا لا يطلع عليه إلا الخواص ، ولا يجوز أن يوضع اللفظ لمعنى خفي . وقال ابن السمعاني في القواطع " : ثم هو أمر بصيغته وليس بأمر . بالإرادة ، وعند المعتزلة هو أمر بإرادة الآمر المأمور به ، وهي تنبني على مسألة كلامية فإن عندنا أنه يجوز أن يأمر بالشيء ولا يريده ، وقد أمر الله - تعالى - إبليس بالسجود لآدم ، ولم يرد أن يسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة ، وأراد أن يأكل ، وأمر إبراهيم بذبح ابنه ولم يرد أن يذبح ، وهذا ; لأن ما [ ص: 268 ] أراد الله أن يكون لا بد أن يكون ، ولأن السيد إذا قال لعبده : افعل ، فقال : أمرته بكذا ولم يعلم مراده ، فدل على أن الأمر أمر بصيغته فقط . انتهى .

                                                      وقال بعض المتأخرين : الحق أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية ، فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا ودينا ، وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا كإيمان من أمره بالإيمان ولم يؤمن ، وأمر خليله بالذبح ولم يذبح ، وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يصل ، وفائدته العزم على الامتثال ، وتوطين النفس عليه . واستدل القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق على التغاير بأن من حلف ليقضين زيدا دينه غدا ، وقال : إن شاء الله ولم يقضه لم يحنث في يمينه مع كونه مأمورا بقضاء دينه ، فلو كان - تعالى - قد شاء [ لما ] أمره به وجب أن يحنث في يمينه ، وهذا ظاهر إذا كان حالا وصاحبه يطلبه ، فإذا كان مؤجلا فقد يمتنع وجوب الوفاء في غد إذا لم يكن غدا محل الأجل . وأما إذا كان حالا وصاحبه غير مطالب ففي وجوب الوفاء على الفور وجهان لإمام الحرمين . ثم لا نسلم أن قضاء الدين معلق على المشيئة التي هي مدلول الأمر حتى يحنث لتحقق الأمر بل هو معلق على المشيئة القائمة بذات الله تعالى التي لم يدل عليها الأمر ، فإن صرح بتعليقه على تلك المشيئة منعنا حكم المسألة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية