الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ هل يجوز إبهام الإجارة ؟ ]

المثال الخامس والستون : قد تدعو الحاجة إلى أن يكون عقد الإجارة مبهما غير معين ، فمثاله أن يقول له : إن ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا فلك عشرة وإن ركبتها إلى أرض كذا فلك خمسة عشر ، أو يقول : إن خطت هذا القميص اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فنصف درهم ، وإن زرعت هذه الأرض حنطة فأجرتها مائة ، أو شعيرا فأجرتها خمسون ، ونحو ذلك ; فهذا كله جائز صحيح ، لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ، بل هذه الأدلة تقتضي صحته ، وإن كان فيه نزاع متأخر ، فالثابت عن الصحابة الذي لا يعلم عنهم فيه نزاع جوازه كما ذكره البخاري في صحيحه عن عمر أنه دفع أرضه إلى من يزرعها وقال : إن جاء عمر بالبذر من عنده فله كذا ، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا ، ولم يخالفه صحابي واحد ، ولا محذور في ذلك ، ولا خطر ، ولا غرر ، ولا أكل مال بالباطل ، ولا جهالة تعود إلى العمل ولا إلى العوض ، فإنه لا يقع إلا معينا ، والخيرة إلى الأجير ; أي ذلك أحب أن يستوفي فعل ، فهو كما لو قال [ له ] أي ثوب أخذته من هذه الثياب فقيمته كذا ، أو أي دابة ركبتها فأجرتها كذا ، أو أجرة هذه الفرس كذا [ وأجرة هذا الحمار كذا ] ، فأيها شئت فخذه ، أو ثمن هذا الثوب مائة وثمن هذا مائتان ، ونحو ذلك مما ليس فيه غرر ولا جهالة ولا ربا ولا ظلم ، فكيف تأتي الشريعة بتحريمه ؟

وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على فعله ، وكثير من المتأخرين من أتباع الأئمة يبطل هذا العقد ، فالحيلة على جوازه أن يقول : استأجرتك لتخيطه اليوم بدرهم ، فإن خطته غدا فلك أجرة مثله نصف درهم ، وكذا يقول : آجرتك هذه الدابة إلى أرض كذا بعشرة ، فإن ركبتها إلى أرض كذا وكذا فعليك أجرة مثلها كذا وكذا ، فإن خاف أن يكون يده يد عدوان ضمنه فليقل : فإذا انقضت المسافة الأولى فهي أمانة عندك ، هذا عند من لم يصحح الإجارة المضافة ، ومن صححها فالحيلة عنده أن يقول : فإذا قطعت هذه المسافة فقد آجرتكها إلى مسافة كذا وكذا ، فإذا انتهت آجرتكها إلى مسافة كذا وكذا ، فإن خشي المستأجر أن ينقضي شغله قبل ذلك فيبقى عقد الإجارة لازما له وقد فرغ شغله فالحيلة أن يقول : إذا انقضت المسافة أو المدة فقد وكلتك في إجارتها لمن شئت ، فليؤجرها لغيره ثم يستأجرها منه ، فإن خاف أن لا تتم هذه الحيلة على أصل من لا يجوز تعليق الوكالة بالشرط فليوكله في الحال وكالة غير معلقة ، ثم يعلق تصرفه بالشرط ، فيقول : أنت وكيلي في إجارتها ، فإذا انقضت المدة فقد أذنت لك في إجارتها . [ ص: 312 ]

وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال الحيل : إن احتال في إجازة هذا الشرط فقال : استأجرها إلى دمشق بكذا ، ومن دمشق إلى الرملة بكذا ، ومن الرملة إلى مصر بكذا ، جاز له ; لأنه إذا سمى لكل من المسافتين أجرة معلومة فكل واحدة منهما كالمعقود عليه على حاله ، فلا يمنع صحة العقد .

قلت : ولكن لا تنفعه هذه الحيلة إذا انقضى غرضه عند المسافة الأولى ، ويبقى عقد الإجارة لازما له فيما وراءها ، فتصير كما لو استأجرها إلى مصر فانقضى غرضه في الرملة ، فما الذي أفاده تعدد العقود ، فوجود هذه الحيلة وعدمها سواء ، فالوجه ما ذكرناه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية