الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 316 ] المانع السابع : استيفاء عدد الطلاق ثلاثا للحر ، واثنتان للعبد ; لتعذر تشطير طلقة لقوله تعالى : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ( البقرة : 229 ) ، أي : الطلاق الرجعي ; لقوله تعالى : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) ( البقرة : 230 ) ، وهذه ثالثة لذكرها بعد اثنتين .

                                                                                                                والطلاق عندنا معتبر بالرجال ; لأن تعلق الفعل بفاعله آكد من تعلقه بغيره ، فطلاق العبد اثنتان ، ولو كانت امرأته حرة ، والحر ثلاث ، وإن كانت امرأته أمة ، وقال ( ح ) : معتبر بالنساء فللحرة ثلاث تطليقات كيف كان زوجها ، والأمة اثنتان كيف كان زوجها لما يروى عنه عليه السلام : ( طلاق الأمة طلقتان ، وعدتها حيضتان ) .

                                                                                                                تنبيه : لما كان مطلوب الزواج الإعفاف وتكثير النسل عاقب الله تعالى المطلق ثلاثا باحتياجه إلى وطء غيره لامرأته لصعوبة ذلك على المرأة .

                                                                                                                فائدة : يقال : كل نكاح في كتاب الله تعالى فالمراد به العقد إلا هذه الآية المراد منها الوطء مع العقد .

                                                                                                                قواعد : حتى للغاية فيثبت بعدها نقيض ما قبلها ، والمرأة لا تحل بوطء الثاني بل حتى تطلق وتعتد ويعقد الأول ، فهل ترك مقتضى الآية أو هو باق ؟ فنقول : التحريم يتضاعف بسبب اجتماع الأسباب كالزنا [ ص: 317 ] بمحرم ، وبالأم أشد ، وبها في الصوم أشد ، ومع الإحرام أشد ، وفي الكعبة كذلك ، هذه محرمة لكونها أجنبية ، ومطلقة ثلاثا ، والمعنى إنما هو تحريم الثلاث ، وهو يرتفع بوطء الثاني ، ويبقى تحريم الأجنبية ، وكونها زوجة للغير فإذا طلقها ارتفع كونها زوجة للغير ، وبقي كونها أجنبية فإذا عقد حلت مطلقا .

                                                                                                                تفريع : في الكتاب : إذا لم يحتلم وهو يقوى على الوطء لا يحل وطؤه المرأة ، ولا يحصن ، ولا مهر ، ولا عدة ، وتحرم على آبائه ، وعلى أبنائه ; لأن الخروج من الحرمة إلى الحل يتوقف على أعلى المراتب ، وكذلك العبد بإذن سيده ، والخصي القائم الذكر ، والمجنون ، والمجبوب إذا لم يعلم بهم ; لأن لها الخيار ، وإن علمت أحلوها وحصنوها لسقوط خيارها ، ولا يحل المجبوب ، ولا يحصن لعدم الوطء ، قال ابن يونس : قال أشهب : إذا وطئها المجنون في جنه بعد علمها لا يحلها ، ولا يحصنها لنقصانه عن الكمال ، والصحيح : يحل المجنون ويحصنها ; لأن الوطء للرجل ، وإنما المرأة ممكنة ، قال ابن يونس : قال بعض شيوخنا : وسواء كان مقطوع الحشفة أم لا ، وهو ظاهر الكتاب ، وقال أشهب : إذا اختار السيد أحل وطء العبد ، وقال ابن حبيب : إذا أدخلت حشفة الشيخ بيدها وانتعش بعد الإدخال أحلها ، وإلا فلا ، وإن أنزل خارج الفرج فدخل الماء إليه فأنزلت لا يحلها لعدم النكاح ، وفي الجواهر : قيل : لا يشترط الانتشار ، ويكفي من مقطوع الحشفة مقدارها ، ويشترط علم الزوجة بالوطء دون علم الزوج عند ابن القاسم لقوله تعالى : ( حتى تنكح زوجا غيره ) ولم يقل حتى ينكحها زوج غيره ، ولأنه أوقع في أدب المطلق ، وعكس أشهب ; لأن الإحلال من فعل الزوج ؛ فوطء المجنون يحل عند ابن القاسم دون أشهب فلو كانت [ ص: 318 ] هي المجنونة حلت عند أشهب دون ابن القاسم ، وقال عبد الملك : تحل في الحالين نظرا لحصول الوطء .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إذا ادعت الوطء ، وأنكره لا يحد ، وقال ابن القاسم : لا أمنع المطلق منها خشية أن يكون إنكاره إضرارا ، قال اللخمي : إن لم يعلم التحليل إلا من قولها لا يقبل في الأمد القريب ، ويقبل في الأمد البعيد إن كانت مأمونة ، قال محمد : لا يقبل في غير المأمونة ، وقال ابن عبد الحكم : يقبل إذا طال بحيث يمكن موت شهودها ، وهي كالغريبة ، وأما الطارئة فتدين لتعذر ذلك عليها إلا أن يقرب الموضع ، ولمالك قول ثالث : إن قالت ذلك بقرب طلاقها لم تحل ، أو بعد الطول عند إرادة الرجوع لم تصدق ، وفي الجواهر : قال أبو الطاهر : كل موضع تصدق فيه على الزوج في دعوى الوطء صدقت في الإحلال ، وما لا فلا ، وقال صاحب المنتقى : قال ابن وهب : إن ذكر ذلك عند الفراق لم يحلها ذلك ، وفي الكتاب : لو مات قبل الدخول ، وتوهم الدخول لم تحل حتى يعلم الدخول ; لأنه السبب ، وردته لا تبطل الإحلال المتقدم عليها ، ولا الحاجة إلى الإحلال بخلاف الإحصان ، والظهار ، واليمين بالله تعالى ، والعتق ، وقال غيره : لا يسقط ذلك ، والفرق للمذهب أن هذه كفارات وأمور في الذمة فتسقط ، كالكافر الأصلي لا تقبل ذمته بعد توبتها بعد الإسلام ، والإحلال وتحريم المبتوتة سببان شرعيان لا يوجبان شيئا في الذمة بل [ ص: 319 ] إذا أسلم قلنا له : تحرم عليك هذه حتى تتزوج لا أن نلزمه شيئا ، وتحل للمطلق هذه بوطئك ، قال اللخمي : قال محمد : يسقط الإحلال والإحصان بردتها بخلاف ردته ; لأنه فعل فعله في غيره فلا يبطل بردته كالعتق ، قال اللخمي : لو ارتدا ثم رجعا جاز أن يتناكحا قبل زوج عند ابن القاسم ; لأنهما عنده كالحربيين ، وعند غيره لا يجوز ; لأنهما يعودان على ما كانا عليه ، وإن ارتد المحل خاصة : قال ابن القاسم : لا يحل ، وقال غيره : يحل ، وفي الكتاب : لا يحل إلا العقد الصحيح الذي لا اختيار لأحد فيه مع مغيب الحشفة ، وما فيه خيار فالوطء بعد الخيار لاستقراره حينئذ ، وباشتراط الوطء ، قال الأئمة ، خلافا لسعيد بن المسيب لما في مسلم : ( أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر فأتت النبي - عليه السلام - فذكرت أنه لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم - عليه السلام - وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك ) يريد بعسيلته إيلاج الحشفة ، واشترط بعض العلماء الإنزال ولم يشترط الشافعي الانتشار ، وبعسيلتها مباشرة فرجها بالحشفة ، ومقتضى هذا الحديث اشتراط علمها ، وبلوغها ، وجوز ( ش ) المراهق ، والصغير لما جبلت عليه الطباع من لذة المباشرة ولو صغر السن ، وقياسا لإحلال الصغير على إحلال الصغيرة والمبتوتة ، وجوز ( ح ) المراهق ، ومنعه مالك ; لأنه خلاف المفهوم من الحديث ، قال اللخمي : وعلى أحد قولي مالك في المراهق يحد في الزنا : يحل ، وفي الكتاب : وطء الحائض أو أحدهما معتكف : أو صائم رمضان ، أو محرم لا يحل ولا [ ص: 320 ] يحصن ، واشترط ( ش ) حل الوطء ، ولا يحل وطء النصراني النصرانية إلا أن يطأها بعد إسلامه ، قال اللخمي : وقال أيضا يحللها النصراني ، وهو أصوب ; لاندراجه في عموم الأزواج .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال صاحب البيان : إذا تزوجها من حلف ليتزوجن على امرأته لتبر يمينه ، فثلاثة أقوال : قال ابن القاسم يحلها ; لأنه لم يعزم على التحليل ، وقال أيضا : لا يحلها ، كانت تشبه أن تكون من نسائه أم لا ; لأنه لم ينو الإقامة بل الخروج من يمينه فأشبه المحلل ، وقال ابن كنانة إن كانت تشبه أن تكون من نسائه حلت ، وإلا فلا .

                                                                                                                قاعدة : كل متكلم له عرف في لفظه : إنما يحمل لفظه على عرفه ، ولذلك تحمل عقود كل بلد على نقده ، ووصاياهم وأوقافهم ونذورهم على عوائدهم ، والشرع له عرف في النكاح ، وهو المجتمع للأسباب والشرائط ، والانتفاء للموانع فحملنا قوله تعالى : ( حتى تنكح زوجا غيره ) عليه فخرج العقد الفاسد ، والوطء المحرم وإن صح العقد ، ووطء النصراني لفساد عقده ، وفي الكتاب : لا يحلل إلا نكاح الرغبة غير المدلسة ، قيل لمالك : إنه يحتسب ذلك ، قال : يحتسب في غير هذا لقوله - عليه السلام - في الترمذي : ( لعن الله المحلل والمحلل له ) ، واللعنة دليل التحريم ، وسببه في المحلل ما فيه من دناءة المروءة من عزم الإنسان على وطء امرأة لتمكين غيره من وطئها بعد صيرورتها فراشا له ، ومنسوبة [ ص: 321 ] إليه ، وفي المحلل له ، مع أن القاعدة امتناع مؤاخذة الإنسان بفعل غيره ، إما لاستباحته بهذا التحليل الفاسد إن فعل ، وإما لأن طلاقه ثلاثا محرم ، وهو المخرج إلى هذا ، وإما أن يحمل على ما إذا اشترط التحليل ، واللعن يدل على فساد العقد فيفسخ أبدا ، ولا يحلل مع أن صاحب القبس قال : لم يصح هذا الحديث .

                                                                                                                قال ابن يونس : قال عبد الملك : الوطء الحرام يحلل ويحصن ، وقال المغيرة : يحصن ; لأن الإحصان يرجع إلى وجوب الرجم ، والمعصية تناسب العقوبة ، ولا يحلل ; لأن الإحلال نعمة تنافيها المعصية . والوطء في صوم التطوع ، وقضاء رمضان ، ونذر أيام معينة يحل ويحصن عند مالك وأصحابه لحصول العسيلتين ، وتوقف ابن القاسم في صوم التطوع ، قال مالك : إن نوى إمساكها إن أعجبته ، وإلا حلها لا يحل ; لمشاركة نية التحليل ، ووافقنا ابن حنبل على فساد العقد إذا اشترط عليه التحليل مع العقد أو قبله أو نواه ، وقال ( ش ) و ( ح ) : يحل إذا نواه من غير شرط ، وجوز ( ح ) : نكاح المحلل ، والإقامة عليه بل قال بعض الحنفية : ذلك قربة بالإحسان للمطلق ، لنا عليهم : ما تقدم ، قال مالك : ولا يضر إرادة الزوجين التحليل إذا لم يعلم المحلل ; لأن الإحلال بالوطء ، والطلاق من جهته دونهما ، قال مالك : يفسخ نكاح المحلل بطلقة أبدا ، وله نكاحها بعد ذلك ، وتركه أحب إلي ، ولها صداق مثلها بالمسيس ، وقال أيضا المسمى ، وإن ردها زوجها بدليل النكاح الفاسد فسخ بغير طلاق ، قال صاحب المنتقى : إذا عقد المحلل للتحليل يفسخ قبل البناء وبعده بطلقة بائنة عند محمد إذا ثبت ذلك بإقراره ، ولو ثبت بعد البناء إقراره قبل البناء فليس بنكاح ، قال : وعندي يجري فيه الخلاف في فساد العقد ، ويجب عليه [ ص: 322 ] أن يعلم الأول بقصده للتحليل حتى يمتنع ، وإذا اشترى المبتوتة لا تحل له ، وقال الأئمة : لأن الآية اشترطت النكاح ، وهو ظاهر في التزويج دون الملك .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية