الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 561 ] وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره وبغلتهما أبدا ومدة معلومة ، فإن خرجا من الثلث استخدم وسكن واستغل ، وليس له أن يؤاجرهما ، وإن لم يكن له مال غيرهما خدم الورثة يومين والموصى له يوما ، فإن مات الموصى له عاد إلى الورثة ، ومن أوصى بثمرة بستانه فله الثمرة الموجودة عند موته ، وإن قال : أبدا ، فله ثمرته ما عاش ، ولو أوصى بغلة بستانه فله الحاضرة والمستقبلة وإن أوصى بصوف غنمه أو بأولادها أو بلبنها فله الموجود عند موته ، قال أبدا أو لم يقل ، والعتق في المرض ، والهبة والمحاباة وصية ، والمحاباة إن تقدمت على العتق فهي أولى ، وإن تأخرت شاركته ( سم ) ، ومن أوصى بحقوق الله - تعالى - قدمت الفرائض ، وإن تساوت قدم ما قدمه الموصي إن ضاق الثلث عنها ، وما ليس بواجب يقدم ما قدمه الموصي .

التالي السابق


فصل

[ الوصية ]

( وتجوز الوصية بخدمة عبده وسكنى داره وبغلتهما أبدا ومدة معلومة ) لأن المنافع يصح [ ص: 562 ] تمليكها حال الحياة بعوض وغير عوض ، فكذا بعد الممات للحاجة إلى ذلك كالأعيان ، ثم إن الموصى له يتملكها على ملك الموصي كما قلنا في الوقف ، وتجوز مؤقتا ومؤبدا كما في الإعارة والإجارة لأنها تمليك .

قال : ( فإن خرجا من الثلث استخدم وسكن واستغل ) لأن الثلث حق الموصي فلا تزاحمه الورثة فيه ، وهذا لأن الوصية بالمنفعة تمليك الرقبة في حق ملك المنفعة ; لأنه لا يمكنه الانتفاع بالعين إلا بصيرورته أخص بملك الرقبة كالإجارة فكانت وصية بملك الرقبة في حق الانتفاع لا مطلقا .

( وليس له أن يؤاجرهما ) لأنه ملك المنفعة بغير عوض فلا يملك تمليكها بعوض كالعارية ، هذا لأن التمليك بعوض أقوى وألزم ، والأضعف لا يتناول الأقوى .

قال : ( وإن لم يكن له مال غيرهما خدم الورثة يومين والموصى له يوما ) لأنه لا يمكنه أن يخدمهم جملة واحدة ، فالمهايأة فيه تقع على الأيام كما ذكرنا لأن حقه في الثلث وحقهم في الثلثين كالوصية بالعين ، وهذا لأنه لا يمكن منع الجميع عن الورثة كما لا يملك الوصية بجميع العين ، وإذا تقررت الوصية بالثلث وجبت المهايأة بالحصص كما قلنا .

قالوا : والأعدل في الدار أن تقسم أثلاثا تسكن الورثة الثلثين والموصى له الثلث ; لأن فيه التسوية بينهما في الانتفاع زمانا وذاتا ، وفي المهايأة ذاتا لا زمانا بخلاف العبد فإنه لا يتجزأ فلا يمكن قسمته فتعينت المهايأة ، فإن كان له مال آخر لكن لا يخرج من الثلث فعلى هذا الاعتبار يخدم الموصى له على قدر ثلث التركة والباقي للورثة مثاله : إذا كان العبد نصف التركة فإنه يخدم الموصى له يومين والورثة يوما ; لأن ثلثي العبد ثلث التركة فصار الموصى به ثلثي العبد وثلثه للورثة فيقسم كما ذكرنا ، وعلى هذا الاعتبار تخرج بقية مسائله .

قال : ( فإن مات الموصى له عاد إلى الورثة ) لأن الموصى له استوفى ما أوصي له به من المنافع على ملك الموصي كما بينا ، فلو انتقلت إلى ورثته كان ابتداء استحقاق من غير رضى فلا يجوز ، وإذا كانت على ملك الموصي تنتقل إلى ورثته كسائر أمواله ، ولو أوصى بغلتهما فاستخدم بنفسه وسكن ، قيل يجوز لاستواء الغلة والمنفعة في المقصود ، وقيل لا يجوز وهو [ ص: 563 ] الأصح لأن الغلة دراهم أو دنانير والوصية بهما حصلت وهو استوفى المنافع ، وهما غير متفاوتين في حق الورثة فإنه لو ظهر على الموصي دين أمكنهم استرداد الغلة وإيفاء الدين ، ولا يمكنهم استرداد المنفعة بعد استيفائها فكان هذا أولى ، وليس للورثة بيع الثلثين .

وعن أبي يوسف جوازه لأنه خالص حقهم . وجه الظاهر أن حق الموصى له ثابت في سكنى الجميع لو ظهر له مال آخر تخرج الدار من الثلث وله حق المزاحمة في الثلثين لو خرب الثلث الذي في يده ، والبيع يبطل ذلك فيمنعون عنه . ولو أوصى لرجل بخدمة عبده ولآخر برقبته وهو يخرج من الثلث فهو كما أوصى لأنه أوجب لكل واحد منهما شيئا معلوما حيث عطف أحدهما على الآخر فصار كحالة الانفراد وحكم الموصى له بالرقبة مع صاحب الخدمة كالوارث مع صاحب الخدمة .

قال : ( ومن أوصى بثمرة بستانه فله الثمرة الموجودة عند موته ، وإن قال أبدا فله ثمرته ما عاش ، ولو أوصى بغلة بستانه فله الحاضرة والمستقبلة ) لأن الثمرة اسم للموجود عرفا فلا ينتظم المعدوم إلا بدليل آخر ، وقوله أبدا صريح في إرادته فينتظمه ، إذ لو لم ينتظمه لم يبق للتأبيد فائدة . أما الغلة فينتظم الموجود وما سيوجد مرة بعد أخرى عرفا ، يقال فلان يأكل من غلة بستانه وأرضه وداره ، ويراد به الموجود وما سيوجد عرفا فافترقا .

قال : ( وإن أوصى بصوف غنمه أو بأولادها أو بلبنها فله الموجود عند موته ، قال أبدا أو لم يقل ) لأن الوصية تمليك عند الموت على ما عرف ، فيعتبر وجوده عند ذلك ، وهذا لأن القياس يأبى تمليك المعدوم لعدم قبوله لذلك ، إلا أن الشرع ورد بورود العقد على الغلة والثمرة المعدومة في المساقاة والإجارة فقلنا بجوازه في الوصية أيضا بالقياس ، وبالأولى لأن باب الوصية أوسع ، أما الولد والصوف واللبن لم يرد فيها شيء في المعدوم وإنما ورد في الموجود تبعا في عقد البيع ومقصودا في الخلع ، فكذا في الوصية يجوز في الموجود دون المعدوم اتباعا لمورد الشرع ، ولو أوصى بغلة عبده وغلة داره في المساكين جاز ، وبسكنى داره أو بخدمة عبده لهم لا يجوز إلا لواحد بعينه ; لأنه لا يمكن سكنى الدار واستخدام العبد إلا بالمرمة والنفقة ، ولا يمكن القضاء على واحد منهم فتعذر تنفيذ الوصية فبطلت .

أما الغلة يمكن ترميم الدار والنفقة على العبد من الغلة فوجب تنفيذها .

[ ص: 564 ] قال : ( والعتق في المرض ، والهبة والمحاباة وصية ) تعتبر من الثلث لأنها تبرعات في المرض بما تعلق به حق الورثة فتعتبر من الثلث لما بينا .

قال : ( والمحاباة إن تقدمت على العتق فهي أولى ، وإن تأخرت شاركته ) وقالا : العتق أولى كيف كان . وصورة المحاباة : أن يبيع المريض ما يساوي مائة بخمسين ، أو يشتري ما يساوي خمسين بمائة فالزائد على قيمة المثل في الشراء والناقص في البيع محاباة وهي كالهبة في المرض فاعتبرت وصية .

وفيه أربع مسائل : إحداها أن يحابي ثم يعتق ، والثانية أن يعتق ثم يحابي ، والثالثة أن يعتق ثم يحابي ثم يعتق ، والرابعة أن يحابي ثم يعتق ثم يحابي . فإن خرج الكل من الثلث نفذت ولا كلام فيها ولا خلاف ، وإن لم يخرج من الثلث ، ففي المسألة الأولى تنفذ المحاباة ، فإن فضل شيء فللعتق ، وقالا بالعكس ، وفي المسألة الثانية يشتركان ، وقالا : ينفذ العتق فإن فضل شيء فللمحاباة ، وفي الثالثة يصرف نصف الثلث للمحاباة لأنها تشارك العتق الأول عنده ، ثم ما أصاب العتق الأول قسم بينه وبين الآخر نصفين ، وفي الرابعة الثلث بين المحاباتين لاستوائهما ، ثم ما أصاب الثانية قسم بينها وبين العتق لتقدمه عليها فيشاركها ، وقالا : العتق أولى بكل حال . لهما أن العتق لا يلحقه الفسخ ويلحق المحاباة فكان أولى . والتقدم في الذكر لا يوجب التقدم في الثبوت فلا اعتبار به .

وفي أثر ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا كان في الوصايا عتق بدئ به . ولأبي حنيفة أن المحاباة أقوى لأنها تثبت في ضمن عقد المعاوضة فكان تبرعا معنى لا صورة ، والإعتاق تبرع صورة ومعنى ، والمعاوضات أقوى من التبرعات ، فإذا وجدت المحاباة أولا وهي أقوى لا يزاحمه الأضعف بعدها لقوته وسبقه ، إلا أن العتق إذا تقدم وهو لا يقبل النقض تعارضا فيستويان فيشتركان .

قال زفر : ما بدأ به الموصي منهما فهو أولى لأن بدايته دليل أن اهتمامه به أكثر فكان غرضه تقدمه فيتبع غرضه ، وجوابه ما تقدم . ولو مات وترك عبدا فقال للوارث : أعتقني أبوك ، وقال آخر : لي على أبيك ألف درهم ، فقال صدقتما سعى العبد في قيمته ، وقالا : يعتق من غير سعاية ; لأن العتق والدين ظهرا معا في الصحة بتصديق الوارث بكلام واحد ، والعتق في الصحة لا يوجب السعاية وإن كان على المعتق دين . وله أن الدين أقوى لأنه يعتبر من جميع المال ، [ ص: 565 ] والإقرار بالعتق في المرض يعتبر من ثلث المال ، وكان ينبغي أن يبطل العتق إلا أنه لا يبطل بعد وقوعه فأبطلناه معنى بإيجاب السعاية .

قال : ( ومن أوصى بحقوق الله تعالى قدمت الفرائض ) لأنها أهم من النوافل ; لأن الفرائض تخرجه عن العهدة ، والنوافل تحصل له زيادة الثواب ، والأول أولى ، فالظاهر أنه أراد الأهم والأولى .

( وإن تساوت ) بأن كان الكل فرائض .

( قدم ما قدمه الموصي إن ضاق الثلث عنها ) لأن الظاهر أنه بدأ بالأهم ، وقيل يبدأ بالحج ثم بالزكاة لأنه يؤدى بالمال والنفس ، وقيل بالزكاة ثم بالحج لأنه تعلق بها حق العباد فكانت أولى ، ثم بعدهما الكفارات لأنهما أقوى منها في الفرضية والوعيد على الترك ، ثم صدقة الفطر بعد الكفارات ; لأن الكفارات عرف وجوبها بالقرآن وصدقة الفطر بالسنة ، ثم الأضحية لأن صدقة الفطر مجمع على وجوبها والأضحية مختلف فيها ( وما ليس بواجب يقدم ما قدمه الموصي ) لما مر .




الخدمات العلمية