الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا .

عطف على جملة واللاتي تخافون نشوزهن وهذا حكم أحوال أخرى تعرض بين الزوجين ، وهي أحوال الشقاق من مخاصمة ومغاضبة وعصيان ، ونحو ذلك من أسباب الشقاق ، أي دون نشوز من المرأة .

[ ص: 45 ] والمخاطب هنا ولاة الأمور لا محالة ، وذلك يرجح أن يكونوا هم المخاطبين في الآية التي قبلها .

والشقاق مصدر كالمشاقة ، وهو مشتق من الشق بكسر الشين أي الناحية . لأن كل واحد يصير في ناحية ، على طريقة التخييل ، كما قالوا في اشتقاق العدو : إنه مشتق من عدوة الوادي . وعندي أنه مشتق من الشق بفتح الشين وهو الصدع والتفرع ، ومنه قولهم : شق عصا الطاعة ، والخلاف شقاق . وتقدم في سورة البقرة عند قوله تعالى : وإن تولوا فإنما هم في شقاق وأضاف الشقاق إلى ( بين ) . إما لإخراج لفظ ( بين ) عن الظرفية إلى معنى البعد الذي يتباعده الشيئان ، أي شقاق تباعد ، أي تجاف ; وإما على وجه التوسع ، كقوله : بل مكر الليل وقول الشاعر :


يا سارق الليلة أهل الدار

ومن يقول بوقوع الإضافة على تقدير " في " يجعل هذا شاهدا له كقوله " هذا فراق بيني وبينك " ، والعرب يتوسعون في هذا الظرف كثيرا ، وفي القرآن من ذلك شيء كثير ، ومنه قوله : لقد تقطع بينكم في قراءة الرفع .

وضمير ( بينهما ) عائد إلى الزوجين المفهومين من سياق الكلام ابتداء من قوله : الرجال قوامون على النساء .

والحكم بفتحتين الحاكم الذي يرضى للحكومة بغير ولاية سابقة ، وهو صفة مشبهة مشتقة من قولهم : حكموه فحكم ، وهو اسم قديم في العربية ، وكانوا لا ينصبون القضاة ، ولا يتحاكمون إلا إلى السيف ، ولكنهم قد يرضون بأحد عقلائهم يجعلونه حكما في بعض حوادثهم ، وقد تحاكم عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة لدى هرم بن سنان العبسي ، وهي المحاكمة التي ذكرها الأعشى في قصيدته الرائية القائل فيها :


علقم ما أنت إلى عامر     الناقض الأوتار والواتر

وتحاكم أبناء نزار بن معد بن عدنان إلى الأفعى الجرهمي ، كما تقدم في هذه السورة .

[ ص: 46 ] والضميران في قوله " من أهله " و " من أهلها " عائدان على مفهومين من الكلام : وهما الزوج والزوجة ، واشترط في الحكمين أن يكون أحدهما من أهل الرجل والآخر من أهل المرأة ليكونا أعلم بدخلية أمرهما وأبصر في شأن ما يرجى من حالهما ، ومعلوم أنه يشترط فيهما الصفات التي تخولهما الحكم في الخلاف بين الزوجين . قال مالك : إذا تعذر وجود حكمين من أهلهما فيبعث من الأجانب ، قال ابن الفرس : فإذا بعث الحاكم أجنبيين مع وجود الأهل فيشبه أن يقال ينتقض الحكم لمخالفة النص ، ويشبه أن يقال ماض بمنزلة ما لو تحاكموا إليهما . قلت : والوجه الأول أظهر . وعند الشافعية كونهما من أهلهما مستحب فلو بعثا من الأجانب مع وجود الأقارب صح .

والآية دالة على وجوب بعث الحكمين عند نزاع الزوجين النزاع المستمر المعبر عنه بالشقاق ، وظاهرها أن الباعث هو الحاكم وولي الأمر ، لا الزوجان ، لأن فعل ( ابعثوا ) مؤذن بتوجيههما إلى الزوجين ، فلو كانا معينين من الزوجين لما كان لفعل البعث معنى . وصريح الآية : أن المبعوثين حكمان لا وكيلان ، وبذلك قال أيمة العلماء من الصحابة والتابعين ، وقضى به عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وقاله ابن عباس ، والنخعي ، والشعبي ، ومالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وإسحاق ، وعلى قول جمهور العلماء فما قضى به الحكمان من فرقة أو بقاء أو مخالعة يمضي ، ولا مقال للزوجين في ذلك لأن ذلك معنى التحكيم ، نعم لا يمنع هؤلاء من أن يوكل الزوجان رجلين على النظر في شؤونهما ، ولا من أن يحكما حكمين على نحو تحكيم القاضي . وخالف في ذلك ربيعة فقال : لا يحكم إلا القاضي دون الزوجين ، وفي كيفية حكمهما وشروطه تفصيل في كتب الفقه .

وتأولت طائفة قليلة هذه الآية على أن المقصود بعث حكمين للإصلاح بين الزوجين وتعيين وسائل الزجر للظالم منهما ، كقطع النفقة عن المرأة مدة حتى يصلح حالها ، وأنه ليس للحكمين التطليق إلا برضا الزوجين ، فيصيران وكيلين ، وبذلك قال أبو حنيفة ، وهو قول للشافعي ، فيريد أنهما بمنزلة الوكيل الذي يقيمه القاضي عن الغائب . وهذا صرف للفظ الحكمين عن ظاهره ، فهو من التأويل ، والباعث على تأويله عند أبي حنيفة : أن الأصل أن التطليق بيد الزوج ، فلو رأى الحكمان التطليق عليه وهو كاره كان ذلك [ ص: 47 ] مخالفة لدليل الأصل فاقتضى تأويل معنى الحكمين ، وهذا تأويل بعيد ، لأن التطليق لا يطرد كونه بيد الزوج ، فإن القاضي يطلق عند وجود سبب يقتضيه .

وقوله تعالى : إن يريدا إصلاحا الظاهر أنه عائد إلى الحكمين لأنهما المسوق لهما الكلام ، واقتصر على إرادة الإصلاح لأنها التي يجب أن تكون المقصد لولاة الأمور والحكمين ، فواجب الحكمين أن ينظرا في أمر الزوجين نظرا منبعثا عن نية الإصلاح ، فإن تيسر الإصلاح فذلك ، وإلا صارا إلى التفريق ، وقد وعدهما الله بأن يوفق بينهما إذا نويا الإصلاح ، ومعنى التوفيق بينهما إرشادهما إلى مصادفة الحق والواقع ، فإن الاتفاق أطمن لهما في حكمهما بخلاف الاختلاف ، وليس في الآية ما يدل على أن الله قصر الحكمين على إرادة الإصلاح حتى يكون سندا لتأويل أبي حنيفة أن الحكمين رسولان للإصلاح لا للتفريق ، لأن الله تعالى ما زاد على أن أخبر بأن نية الإصلاح تكون سببا في التوفيق بينهما في حكمهما ، ولو فهم أحد غير هذا المعنى لكان متطوحا عن مفاد التركيب .

وقيل : الضمير عائد على الزوجين ، وهذا تأويل من قالوا : إن الحكمين يبعثهما الزوجان وكيلين عنهما ، أي إن يرد الزوجان من بعث الحكمين إصلاح أمرهما يوفق الله بينهما ، بمعنى تيسير عود معاشرتهما إلى أحسن حالها . وليس فيها على هذا التأويل أيضا حجة على قصر الحكمين على السعي في الجمع بين الزوجين دون التفريق : لأن الشرط لم يدل إلا على أن إرادة الزوجين الإصلاح تحققه ، وإرادتهما الشقاق والشغب تزيدهما ، وأين هذا من تعيين خطة الحكمين في نظر الشرع .

وهذه الآية أصل في جواز التحكيم في سائر الحقوق ، ومسألة التحكيم مذكورة في الفقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية