الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فصل فيما كان من أمر بني إسرائيل بعد هلاك فرعون

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الله تعالى : فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ الأعراف : 136 - 141 ] . يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده ، في غرقهم ، وكيف سلبهم عزهم ، ومالهم ، وأنفسهم ، وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم ، كما قال : كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ الشعراء : 59 ] . وقال : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [ القصص : 5 ] . [ ص: 118 ] وقال هاهنا : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون أي : أهلك ذلك جميعه ، وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا ، وهلك الملك وحاشيته ، وأمراؤه ، وجنوده ، ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا . فذكر ابن عبد الحكم ، في " تاريخ مصر " ، أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها; بسبب أن نساء الأمراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومك هذا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعند أهل الكتاب ، أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر ، جعل الله ذلك الشهر أول سنتهم ، وأمروا أن يذبح كل أهل بيت حملا من الغنم ، فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل ، فليشترك الجار وجاره فيه ، فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم; ليكون علامة لهم على بيوتهم ، ولا يأكلونه مطبوخا ، ولكن مشويا برأسه ، وأكارعه ، وبطنه ، ولا يبقوا منه شيئا ، ولا يكسروا له عظما ، ولا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم ، وليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الأول من سنتهم ، وكان ذلك في فصل الربيع ، فإذا أكلوا ، فلتكن أوساطهم مشدودة ، وخفافهم في أرجلهم ، وعصيهم في أيديهم ، وليأكلوا بسرعة قياما ، ومهما فضل عن [ ص: 119 ] عشائهم ، فما بقي إلى الغد فليحرقوه بالنار ، وشرع لهم هذا عيدا لأعقابهم ، ما دامت التوراة معمولا بها ، فإذا نسخت بطل شرعها ، وقد وقع . قالوا : وقتل الله عز وجل في تلك الليلة أبكار القبط ، وأبكار دوابهم ، ليشتغلوا عنهم وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار ، وأهل مصر في مناحة عظيمة ، على أبكار أولادهم ، وأبكار أموالهم ، ليس من بيت إلا وفيه عويل . وحين جاء الوحي إلى موسى ، خرجوا مسرعين ، فحملوا العجين قبل اختماره ، وحملوا الأزواد في الأردية ، وألقوها على عواتقهم ، وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا ، فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل ، سوى الذراري ، بما معهم من الأنعام ، وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة . هذا نص كتابهم . وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ وهذا العيد عيد الفسخ ، ولهم عيد الفطير وعيد الحمل ، وهو أول السنة . وهذه الأعياد الثلاثة آكد أعيادهم ، منصوص عليها في كتابهم . ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف ، عليه السلام ، وخرجوا على طريق بحر سوف . وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم ، فيه عامود نور ، وبالليل أمامهم عامود نار ، فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر ، فنزلوا هنالك ، وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين ، وهم هناك حلول على شاطئ اليم ، فقلق كثير من بني إسرائيل ، حتى قال قائلهم : كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية . وقال موسى ، عليه السلام ، لمن قال هذه المقالة : لا [ ص: 120 ] تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا . قالوا : وأمر الله موسى ، عليه السلام ، أن يضرب البحر بعصاه ، وأن يقسمه; ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس . وصار الماء من هاهنا وهاهنا كالجبلين وصار وسطه يبسا; لأن الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم ، فجاز بنو إسرائيل البحر ، وأتبعهم فرعون وجنوده ، فلما توسطوه ، أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه ، فرجع الماء كما كان عليهم . لكن عند أهل الكتاب ، أن هذا كان في الليل ، وأن البحر ارتطم عليهم عند الصبح ، وهذا من غلطهم ، وعدم فهمهم في تعريبهم ، والله أعلم . قالوا : ولما أغرق الله فرعون وجنوده ، حينئذ سبح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب ، وقالوا : نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود ، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود . وهو تسبيح طويل . قالوا : وأخذت مريم النبية ، أخت هارون دفا بيدها ، وخرج النساء في أثرها ، كلهن بدفوف وطبول ، وجعلت مريم ترتل لهن وتقول : سبحان الرب القهار ، الذي قهر الخيول وركبانها ، إلقاء في البحر . هكذا رأيته في كتابهم . ولعل هذا هو من الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران ، أم عيسى ، هي أخت هارون وموسى ، مع قوله : يا أخت هارون وقد بينا غلطه في ذلك ، وأن هذا لا يمكن أن يقال ، ولم يتابعه أحد عليه ، بل كل واحد خالفه فيه ، ولو قدر أن هذا محفوظ ، فهذه مريم بنت عمران ، أخت موسى وهارون ، عليهما السلام ، وأم عيسى عليها السلام ، وافقتها في [ ص: 121 ] الاسم ، واسم الأب ، واسم الأخ; لأنهم كما قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران ، عن قوله : يا أخت هارون فلم يدر ما يقول لهم ، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك ، فقال : أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم رواه مسلم . وقولهم : النبية . كما يقال للمرأة من بيت الملك : ملكة . ومن بيت الإمرة : أميرة . وإن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك ، فكذا هذه استعارة لها ، لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها . وضربها بالدف في مثل هذا اليوم - الذي هو أعظم الأعياد عندهم - دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد . وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء; لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة تضربان بالدف في أيام منى ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع ، مول ظهره إليهم ، ووجهه إلى الحائط ، فلما دخل أبو بكر زجرهن ، وقال : أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال : دعهن يا أبا بكر ، فإن لكل قوم عيدا ، وهذا عيدنا وهكذا يشرع عندنا في الأعراس ، ولقدوم الغياب ، كما هو مقرر في موضعه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكروا أنهم لما جاوزوا البحر ، وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام ، مكثوا ثلاثة أيام ، لا يجدون ماء ، فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك ، فوجدوا ماء زعاقا أجاجا ، لم يستطيعوا شربه ، فأمر الله موسى ، عليه السلام ، فأخذ خشبة فوضعها فيه ، فحلا وساغ شربه ، وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا ، ووصاه وصايا كثيرة . وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز ، المهيمن على ما [ ص: 122 ] عداه من الكتب : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قالوا هذا الجهل والضلال ، وقد عاينوا من آيات الله وقدرته ، ما دلهم على صدق ما جاءهم به رسول ذي الجلال والإكرام ، وذلك أنهم مروا على قوم يعبدون أصناما ، قيل : كانت على صور البقر . فكأنهم سألوهم : لم يعبدونها ، فزعموا لهم أنها تنفعهم وتضرهم ، ويسترزقون بها عند الضرورات ، فكأن بعض الجهال منهم صدقوهم في ذلك ، فسألوا نبيهم الكليم الكريم العظيم ، أن يجعل لهم آلهة كما لأولئك آلهة ، فقال لهم مبينا لهم أنهم لا يعقلون ولا يهتدون : إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون . ثم ذكرهم نعمة الله عليهم ، في تفضيله إياهم على عالمي زمانهم بالعلم ، والشرع ، والرسول الذي بين أظهرهم ، وما أحسن به إليهم ، وما امتن به عليهم ، من إنجائهم من قبضة فرعون الجبار العنيد ، وإهلاكه إياه وهم ينظرون ، وتوريثه إياهم ما كان فرعون وملؤه يجمعونه من الأموال والسعادة ، وما كانوا يعرشون ، وبين لهم أنه لا تصلح العبادة إلا لله وحده ، لا شريك له; لأنه الخالق الرازق القهار ، وليس كل بني إسرائيل سأل هذا السؤال ، بل الضمير عائد على الجنس في قوله : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة أي; قال بعضهم كما في قوله : [ ص: 123 ] وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا [ الكهف : 47 ، 48 ] . فالذين زعموا هذا بعض الناس ، لا كلهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان الديلي ، عن أبي واقد الليثي ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل حنين ، فمررنا بسدرة فقلت : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط ، كما للكفار ذات أنواط . وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ، ويعكفون حولها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة . إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم ورواه النسائي ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق به . ورواه الترمذي ، عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري به . ثم قال : حسن صحيح . وقد روى ابن جرير ، من حديث محمد بن إسحاق ، ومعمر ، وعقيل ، عن الزهري عن سنان بن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي ، أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين قال : وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها : ذات أنواط . قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا : يا رسول [ ص: 124 ] الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . قال : قلتم والذي نفسي بيده ، كما قال قوم موسى لموسى " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      والمقصود أن موسى ، عليه السلام ، لما انفصل من بلاد مصر ، وواجه بلاد بيت المقدس وجد فيها قوما من الجبارين ، من الحيثانيين ، والفزاريين ، والكنعانيين ، وغيرهم فأمرهم موسى ، عليه السلام ، بالدخول عليهم ، ومقاتلتهم وإجلائهم إياهم عن بيت المقدس ، فإن الله كتبه لهم ، ووعدهم إياه ، على لسان إبراهيم الخليل ، وموسى الكليم الجليل ، فأبوا ونكلوا عن الجهاد ، فسلط الله عليهم الخوف ، وألقاهم في التيه; يسيرون ، ويحلون ، ويرتحلون ، ويذهبون ، ويجيئون ، في مدة من السنين طويلة ، هي من العدد أربعون; كما قال الله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين [ المائدة : 20 - 26 ] . [ ص: 125 ] يذكرهم نبي الله نعمة الله عليهم ، إحسانه عليهم بالنعم الدينية والدنيوية ، ويأمرهم بالجهاد في سبيل الله ، ومقاتلة أعدائه ، فقال : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم أي; تنكصوا على أعقابكم ، وتنكلوا على قتال أعدائكم . فتنقلبوا خاسرين أي; فتخسروا بعد الربح ، وتنقصوا بعد الكمال . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين أي; عتاة كفرة متمردين ، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ، خافوا من هؤلاء الجبارين ، وقد عاينوا هلاك فرعون ، وهو أجبر من هؤلاء ، وأشد بأسا ، وأكثر جمعا ، وأعظم جندا . وهذا يدل على أنهم ملومون في هذه المقالة ، ومذمومون على هذه الحالة ، من الذلة عن مصاولة الأعداء ، ومقاومة المردة الأشقياء .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا آثارا ، فيها مجازفات كثيرة باطلة ، يدل العقل والنقل على خلافها; من أنهم كانوا أشكالا هائلة ضخاما جدا ، حتى إنهم ذكروا أن رسل بني إسرائيل ، لما قدموا عليهم ، تلقاهم رجل من رسل الجبارين ، فجعل يأخذهم واحدا واحدا ، ويلفهم في أكمامه وحجزة سراويله ، وهم اثنا عشر رجلا ، فجاء بهم ، فنثرهم بين يدي ملك الجبارين ، فقال : ما هؤلاء؟ ولم يعرف أنهم من بني آدم حتى عرفوه . وكل هذه هذيانات [ ص: 126 ] وخرافات لا حقيقة لها ، وأن الملك بعث معهم عنبا ، كل عنبة تكفي الرجل ، وشيئا من ثمارهم; ليعلموا ضخامة أشكالهم ، وهذا ليس بصحيح . وذكروا هاهنا أن عوج بن عنق ، خرج من عند الجبارين إلى بني إسرائيل; ليهلكهم ، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع ، وثلاثمائة ذراع ، وثلاثة وثلاثين ذراعا ، وثلث ذراع ، هكذا ذكره البغوي وغيره ، وليس بصحيح ، كما قدمنا بيانه عند قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق آدم ، طوله ستون ذراعا ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن . قالوا : فعمد عوج إلى قمة جبل ، فاقتلعها ، ثم أخذها بيديه; ليلقيها على جيش موسى ، فجاء طائر ، فنقر تلك الصخرة ، فخرقها ، فصارت طوقا في عنق عوج بن عنق ، ثم عمد موسى إليه ، فوثب في الهواء عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، وبيده عصاه ، وطولها عشرة أذرع ، فوصل إلى كعب قدمه فقتله . يروى هذا عن نوف البكالي ، ونقله ابن جرير ، عن ابن عباس ، وفي إسناده إليه نظر . ثم هو مع هذا كله من الإسرائيليات ، وكل هذه من وضع جهال بني إسرائيل فإن الأخبار الكذبة قد كثرت عندهم ، ولا تمييز لهم بين صحيحها وباطلها . ثم لو كان هذا [ ص: 127 ] صحيحا لكان بنو إسرائيل معذورين في النكول عن قتالهم ، وقد ذمهم الله على نكولهم ، وعاقبهم بالتيه على ترك جهادهم ، ومخالفتهم رسولهم ، وقد أشار عليهم رجلان صالحان منهم بالإقدام ، ونهياهم عن الإحجام . ويقال : إنهما يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال رجلان من الذين يخافون أي; يخافون الله وقرأ بعضهم : ( يخافون ) ; أي يهابون ، أنعم الله عليهما أي; بالإسلام ، والإيمان ، والطاعة ، والشجاعة : ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين أي; إذا توكلتم على الله ، واستعنتم به ، ولجأتم إليه ، نصركم على عدوكم ، وأيدكم عليهم ، وأظفركم بهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون فصمم ملؤهم علىالنكول عن الجهاد ، ووقع أمر عظيم ، ووهن كبير . فيقال : إن يوشع ، وكالب لما سمعا هذا الكلام شقا ثيابهما ، وإن موسى وهارون ، عليهما السلام ، سجدا; إعظاما لهذا الكلام وغضبا لله عز وجل ، وشفقة عليهم من وبيل هذه المقالة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين [ ص: 128 ] قال ابن عباس : اقض بيني وبينهم . قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين عوقبوا على نكولهم بالتيهان في الأرض ، يسيروا إلى غير مقصد ، ليلا ونهارا ، وصباحا ومساء . ويقال : إنه لم يخرج أحد من التيه ممن دخله ، بل ماتوا كلهم في مدة أربعين سنة ، ولم يبق إلا ذراريهم سوى يوشع ، وكالب ، عليهما السلام .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لكن أصحاب محمد ، صلى الله عليه وسلم ، يوم بدر ، لم يقولوا له كما قال قوم موسى لموسى ، بل لما استشارهم في الذهاب إلى النفير ، تكلم الصديق فأحسن ، وغيره من المهاجرين ، ثم جعل يقول : أشيروا علي حتى قال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن يلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك . فسر بنا على بركة الله . فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، وبسطه ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن ابن عبد الله الأحمسي ، عن طارق هو ابن شهاب ، أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : [ ص: 129 ] فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون . وهذا إسناد جيد من هذا الوجه وله طرق أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدا ، لأن أكون أنا صاحبه ، أحب إلي مما عدل به; أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يدعو على المشركين ، فقال : والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك . فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك ، وسر بذلك . رواه البخاري في التفسير والمغازي ، من طرق عن مخارق به . وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا علي بن الحسن بن علي حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين ، فأشار عليه عمر ، ثم استشارهم ، فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار ، إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : إذا لا نقول له كما قال بنو إسرائيل لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون والذي بعثك بالحق ، لو ضربت أكبادها إلى برك الغماد لاتبعناك . رواه الإمام أحمد ، عن عبيدة بن حميد ، عن حميد [ ص: 130 ] الطويل ، عن أنس به . ورواه النسائي عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد ، عن أنس به نحوه . وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " ، عن أبي يعلى ، عن عبد الأعلى بن حماد ، عن معتمر عن حميد ، عن أنس به نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية