الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الثاني : [ المراد بصيغة ( افعل ) ] المراد بصيغة " افعل " لفظها وما قام مقامها من اسم الفعل كصه ، والمضارع المقرون باللام ، مثل " ليقم " على الخلاف السابق فيه . وصيغ الأمر من الثلاثي " افعل " نحو اسمع نحو احضر ، وافعل نحو اضرب ، ومن الرباعي فعلل نحو قرطس ، وأفعل نحو أعلم ، وفعل نحو علم ، وفاعل نحو ناظر ، ومن الخماسي تفعلل نحو تقرطس ، وتفاعل نحو تقاعس ، وانفعل نحو انطلق ، وافتعل نحو استمع وافعل نحو احمر ، ومن السداسي استفعل نحو استخرج ، وافعوعل نحو اغدودن ، وافعال نحو احمار ، وافعنلل نحو اقعنسس ، وافعول نحو اعلوط [ ص: 275 ] وكذلك المصدر المجعول جزاء الشرط بحرف الفاء كقوله تعالى : { فتحرير رقبة } أي : فحرروا ، وقوله : { فضرب الرقاب } أي : فاضربوا الرقاب ، وقوله : { ففدية من صيام } أي : فافدوا ، وقوله : { فعدة من أيام أخر } أي : صوموا .

                                                      قاله القاضي الحسين في أول باب الرهن من تعليقه " . وإنما خص الأصوليون " افعل " بالذكر لكثرة دورانه في الكلام . وترد صيغة " افعل " لنيف وثلاثين معنى : أحدها : الإيجاب ، كقوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } . الثاني : كقوله : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } ومثله محمد بن نصر المروزي في كتاب " تعظيم قدر الصلاة " بقوله تعالى : { فسبحه وأدبار السجود } ومثله ابن فارس بقوله تعالى : { فانتشروا في الأرض } وأشار المازري إلى أن هذا القسم إنما يصح إذا قلنا : المندوب مأمور به ، وفيه نظر . الثالث : الإرشاد ، كقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } { وأشهدوا إذا تبايعتم } { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } وسماه الشافعي في أحكام القرآن " : الرشد .

                                                      ومثله بقوله { سافروا تصحوا } وأشار إلى الفرق بينه وبين الأول ، فقال : [ ص: 276 ] وفي كل حتم من الله رشد ، فيجتمع الحتم والرشد . وسماه الصيرفي : الحظ ، وفرق القفال الشاشي وغيره بينه وبين الندب بأن المندوب مطلوب لمنافع الآخرة ، والإرشاد لمنافع الدنيا ، والأول فيه الثواب ، والثاني لا ثواب فيه . الرابع : التأديب وعبر عنه بعضهم بالأدب ومثله بقوله تعالى : { ولا تنسوا الفضل بينكم } قال : وليس في القرآن غيره ، ومثله القفال " بالأمر بالاستنجاء باليسار " " أكل الإنسان مما يليه " ومثله ابن القطان " بالنهي عن التعريس على قارعة الطريق " والأكل من وسط القصعة ، وأن يقرن بين التمرتين " ، قال : فيسمى هذا أدبا ، وهو أخص من الندب ، فإن التأديب يختص بإصلاح الأخلاق وكل تأديب ندب من غير عكس .

                                                      الخامس : الإباحة كقوله تعالى : { كلوا من الطيبات } { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } وأنكر بعض المتأخرين ذلك ، وقال : لم يثبت عندي لغة . والتمثيل بما ذكروه إنما يتم إذا كان الأصل في الأشياء الحظر . السادس : الوعد ، كقوله تعالى : { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } . السابع : الوعيد ويسمى التهديد كقوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن [ ص: 277 ] ومن شاء فليكفر } بدليل قوله : { إنا أعتدنا للظالمين نارا } وقوله : { اعملوا ما شئتم } بدليل قوله : { فإن مصيركم إلى النار } . ومنهم من قال : التهديد أبلغ من الوعيد ، ومثل محمد بن نصر المروزي التهديد بقوله تعالى : { فاعبدوا ما شئتم من دونه } وقوله لإبليس : { واستفزز من استطعت } ومنه قوله صلى الله عليه وسلم { من باع الخمر فليشقص الخنازير } قال وكيع : معناه يعضها .

                                                      الثامن : الامتنان كقوله : { كلوا من طيبات ما رزقناكم } وسماه إمام الحرمين الإنعام . وهو وإن كان بمعنى الإباحة لكن الظاهر منه تذكير النعمة ، والفرق بينه وبين الإباحة أن الإباحة مجرد إذن وأنه لا بد من اقتران الامتنان بذكر احتياج الخلق إليه ، وعدم قدرتهم عليه ، ونحو ذلك كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه . التاسع : الإنذار كقوله تعالى : { قل تمتعوا } { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } والفرق بينه وبين التهديد من وجهتين : أحدهما : الإنذار يجب أن يكون مقرونا بالوعيد كالآية ، والتهديد لا يجب فيه ذلك بل قد يكون مقرونا به وقد لا يكون . وثانيهما : أن الفعل المهدد عليه يكون ظاهره التحريم والبطلان ، وفي الإنذار قد يكون كذلك وقد لا يكون .

                                                      [ ص: 278 ] العاشر : الإكرام { ادخلوها بسلام آمنين } قال القفال : ومنه { قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : اثبت مكانك } . الحادي عشر : السخرية ، كقوله تعالى : { كونوا قردة خاسئين } ; لأنه لا يصح الأمر إلا بالمقدور عليه ، وجعله الصيرفي وابن فارس من أمثلة التكوين . قال ابن فارس : وهذا لا يكون إلا من الله تعالى ، ومثل بها ابن الحاجب في أماليه " للتسخير ، ومثل للإهانة بقوله : { كونوا حجارة } قال : والفرق بينهما أن التسخير عبارة عن تكوينهم على جهة التبديل لمن جعلناهم على هذه الصفة ، والإهانة عبارة عن تعجيزهم فيما يقدرون عليه أي : أنتم أحقر من ذلك .

                                                      تنبيه وقع في عبارتهما التسخير ، والصواب : ما ذكرناه فإن السخرية الهزء ، كقوله تعالى : { إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون } ، وأما التسخير فهو نعمة وإكرام كقوله تعالى : { وسخر لكم الليل والنهار } . الثاني عشر : التكوين كقوله { كن فيكون } ، وسماه الغزالي والآمدي : كمال القدرة ، وسماه القفال والشيخ أبو إسحاق وإمام الحرمين : التسخير ، والفرق بينه وبين السخرية : [ ص: 279 ] أن التكوين سرعة الوجود عن العدم ، وليس فيه انتقال إلى حال ممتهنة ، بخلاف السخرية فإنه لغة : الذل والامتهان . الثالث عشر : التعجيز ، نحو { فأتوا بسورة من مثله } { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } .

                                                      والفرق بينه وبين التسخير أن التسخير نوع من التكوين ، فإذا قيل : كونوا قردة معناه انقلبوا إليها ، والتعجيز إلزامهم بالانقلاب ليظهر عجزهم لا لينقلبوا إلى الحجارة ، ومثله الصيرفي والقفال بقوله : { كونوا حجارة أو حديدا } قال : ومعلوم أن المخاطبين ليس في قدرتهم قلب الأعيان ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ممن يخترع ويسخر ، علم أن قوله كونوا كذا ، تعجيز أي : أنكم لو كنتم حجارة أو حديدا لم تمنعوا من جري قضاء الله عليكم ، وكذا جعله ابن برهان والآمدي من أمثلة التعجيز ، وقال ابن عطية في تفسيره " عندي في التمثيل به نظر ، وإنما التعجيز حيث يقتضى بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب : كقوله : { فادرءوا عن أنفسكم الموت } ونحوه ، وأما هذه الآية فمعناها كونوا بالتوهم ، والتقدير كذا وكذا .

                                                      الرابع عشر : التسوية بين شيئين نحو { فاصبروا أو لا تصبروا } هكذا مثلوا به ، وعلى هذا فقوله : { سواء عليكم } جملة مبينة مؤكدة لقوله : { فاصبروا أو لا تصبروا } ; لأن الاستواء لما لم يكن بالصريح أردفه مبالغة في الحسرة عليهم ، ويحتمل أن يقال : إن صيغة " افعل " أو لا " تفعل " وحدها لا تقتضي التعجيز ، ولا استعار لها بالتسوية إلا من جهة أن التخيير بين الشيئين [ ص: 280 ] يقتضي استواءهما فيما خير المخاطب به ، أو يقال : إن صيغة " افعل " وحدها لم تقتض التسوية لكن المجموع المركب من " افعل " أو لا " تفعل " ، فعلى هذا لا يصدق عليه أن المستعمل صيغة الأمر من حيث هي صيغة الأمر ، فلا يصح جعلهم هذا المثال من صيغة " افعل " وعذرهم أن المراد استعمالها حيث يراد التسوية بالكلام الذي هي فيه .

                                                      الخامس عشر : الاحتياط ، ذكره القفال ومثله بقوله صلى الله عليه وسلم : { إذا قام أحدكم من النوم فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا } بدليل قوله : { فإنه لا يدري أين باتت يده } أي : فلعل يده لاقت نجاسة من بدنه لم يعلمها فليغسلها قبل إدخالها لئلا يفسد الماء . السادس عشر : الدعاء والمسألة ، نحو { ربنا افتح بيننا وبين قومنا } { ربنا اغفر لنا } وقد أورد على تسميتهم ذلك في الأولى سؤالا قوله تعالى : { ولا يسألكم أموالكم } وأجاب العسكري في الفروق " بأنه يجري مجرى الوقف في الكلام واستعطاف السامع به . ومثل محمد بن نصر المروزي الأمر بمعنى الدعاء كقولك : كن بخير . السابع عشر : الالتماس ، كقولك لنظيرك : افعل . وهذا أخص من إرادة الامتثال الآتي .

                                                      [ ص: 281 ] الثامن عشر : التمني . كقولك لشخص تراه : كن فلانا كذا . مثله ابن فارس ونحوه تمثيل الأصوليين ، كقول امرئ القيس :

                                                      ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

                                                      فالمراد بقوله : انجلي بمعنى الانجلاء لطوله ، ونزلوا ليل المحب لطوله منزلة ما يستحيل انجلاؤه مبالغة ، وإلا فانجلاء الليل غير مستحيل ويجيء من هذا المثال السؤال السابق في التسوية ، فإن المستعمل في التمني هو صيغة الأمر مع صيغة " إلا " لا الصفة وحدها ، فالأحسن مثال ابن فارس .

                                                      التاسع عشر : الاحتقار . قال : { ألقوا ما أنتم ملقون } يعني أن السحر وإن عظم شأنه ففي مقابلة ما أتى به موسى عليه السلام حقير . العشرون : الاعتبار والتنبيه ، كقوله تعالى : { أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } وقوله { قل سيروا في الأرض فانظروا } ومثله العبادي بقوله تعالى : { انظروا إلى ثمره إذا أثمر } وجعله الصيرفي من أمثلة تذكير النعم لهم . الحادي والعشرون : التحسير والتلهيف . ذكره ابن فارس ومثله بقوله تعالى : { قل موتوا بغيظكم } وقوله تعالى : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } . الثاني والعشرون : التصبير ، كقوله : { لا تحزن إن الله معنا } [ ص: 282 ] وقوله تعالى : { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } وقوله : { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } ذكر هذه الثلاثة الأخيرة القفال . الثالث والعشرون : الخبر { فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا } المعنى أنهم سيضحكون ويبكون . ومثله محمد بن نصر المروزي بقوله تعالى : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } أي : أذنتم بحرب . أي : كنتم أهل حرب ، ومنه على أحد التأويلين : { إذا لم تستح فاصنع ما شئت } . أي : صنعت ما شئت ، وعكسه { والوالدات يرضعن أولادهن } المعنى لترضعن الوالدات أولادهن . وهكذا أبلغ من عكسه ; لأن الناطق بالخبر مريدا به الأمر كأنه نزل المأمور به منزلة الواقع .

                                                      الرابع والعشرون : التحكيم والتفويض ، كقوله : { فاقض ما أنت قاض } ذكره إمام الحرمين . وسماه ابن فارس والعبادي : التسليم ، وسماه ابن نصر المروزي : الاستبسال . قال : أعلموه أنهم قد استعدوا له بالصبر وأنهم غير تاركين لدينهم ، وأنهم يستقلون بما هو فاعل في جنب ما يتوقعونه من ثواب الله . قال : ومنه قول نوح : { فأجمعوا أمركم } أخبرهم بهوانهم عليه . الخامس والعشرون : التعجب ، ذكره الصفي الهندي ، ومثله بقوله تعالى : { قل كونوا حجارة أو حديدا } وجعله القفال وغيره من قسم التعجيز . ونقل العبادي في الطبقات ورود التعجب [ ص: 283 ] عن أبي إسحاق الفارسي ، ومثله قوله تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } ومثل ابن فارس والعلم القرافي للتعجب بقوله تعالى : { أسمع بهم وأبصر } { أبصر به وأسمع } وهو أليق . السادس والعشرون : بمعنى التكذيب ، كقوله تعالى : { قل فأتوا بسورة مثله } : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } وقوله : { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون } الآية . السابع والعشرون : المشورة ، كقوله تعالى : { فانظر ماذا ترى } ذكره العبادي . والفرق بينه وبين المسألة : أن السؤال يحل محل الحاجة إلى ما يسأل ، والمشورة تقع تقوية للعزم . الثامن والعشرون : قرب المنزلة ذكره الصيرفي ومثله بقوله تعالى : { ادخلوا الجنة } . التاسع والعشرون : الإهانة ، كقوله : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } { فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون } وقوله : { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد } ذكره ابن القطان والصيرفي . قالا : وليس هذا أمر إباحة لإبليس ، وإنما معناه أن ما يكون مثل ذلك لا يضر عبادي ، كقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وسماه جماعة بالتهكم .

                                                      [ ص: 284 ] وضابطه : أن يؤتى بلفظ دال على الخير والكرامة ، والمراد ضده . وفرق جماعة بينه وبين التخيير بأن الإهانة إنما تكون بالقول أو بالفعل أو تركهما دون مجرد الاعتقاد ، والاحتقار إما مختص به ، أو وإن لم يكن كذلك لكنه لا محالة يحصل بمجرد الاعتقاد بدليل أن من اعتقد في شيء أنه لا يعبأ به ولا يلتفت إليه ، يقال : إنه احتقره ، ولا يقال : إنه أهانه ما لم يصدر منه قول أو فعل ينبئ عنه . الثلاثون : التحذير والإخبار عما يئول إليه أمرهم ، كقوله تعالى : { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام } ذكره الصيرفي . الحادي والعشرون : إرادة الامتثال كقولك عند العطش : اسقني ماء فإنك لا تجد من نفسك عند التلفظ به إلا إرادة السقي أعني طلبه ، فإن فرض ذلك من السيد لعبده تصور أن يكون للوجوب أو الندب مع هذه الزيادة ، وهو إتحاف السيد بغرضه . وذلك غير متصور في حق الله تعالى . الثاني والثلاثون : إرادة الامتثال لأمر آخر ، كقوله صلى الله عليه وسلم : { كن عبد الله المقتول ، ولا تكن عبد الله القاتل } ، فإنه لم يقصد الأمر بأن يقتل ، وإنما القصد به الاستسلام ، وعدم ملابسة الفتن

                                                      الثالث والثلاثون : التخيير ، كقوله تعالى : { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ذكره القفال . وفيه ما سبق في التسوية .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية