الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إذا احتلمت المرأة

                                                                                                                                                                                                        278 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أم المؤمنين أنها قالت جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إذا رأت الماء

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب إذا احتلمت المرأة ) إنما قيده بالمرأة مع أن حكم الرجل كذلك لموافقة صورة السؤال وللإشارة إلى الرد على من منع منه في حق المرأة دون الرجل كما حكاه ابن المنذر وغيره عن إبراهيم النخعي واستبعد النووي في شرح المهذب صحته عنه لكن رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد جيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن زينب بنت أبي سلمة ) تقدم هذا الحديث في باب الحياء في العلم من وجه آخر وفيه زينب بنت أم سلمة فنسبت هناك إلى أمها وهنا إلى أبيها وقد اتفق الشيخان على إخراج هذا الحديث من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عنها ورواه مسلم أيضا من رواية الزهري عن عروة لكن قال " عن عائشة " وفيه أن المراجعة وقعت بين أم سليم وعائشة .

                                                                                                                                                                                                        ونقل القاضي عياض عن أهل الحديث أن الصحيح أن القصة وقعت لأم سلمة لا لعائشة ، وهذا يقتضي ترجيح رواية هشام وهو ظاهر صنيع البخاري لكن نقل ابن عبد البر عن الذهلي أنه صحح الروايتين وأشار أبو داود إلى تقوية رواية الزهري ; لأن نافع بن عبد الله تابعه عن عروة عن عائشة وأخرج مسلم أيضا رواية نافع وأخرج أيضا من حديث أنس قال " جاءت أم سليم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له وعائشة عنده " فذكر نحوه . وروى أحمد من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن جدته أم سليم وكانت مجاورة لأم سلمة " فقالت أم سليم : يا رسول الله " فذكر الحديث وفيه أن أم سلمة هي التي راجعتها وهذا يقوي رواية هشام قال النووي في شرح مسلم : يحتمل أن تكون عائشة وأم سلمة جميعا أنكرتا على أم سليم وهو جمع حسن ; لأنه لا يمتنع حضور أم سلمة وعائشة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجلس واحد . وقال في شرح المهذب : يجمع بين الروايات بأن أنسا وعائشة وأم سلمة حضروا القصة . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        والذي يظهر أن أنسا لم يحضر القصة وإنما تلقى ذلك من أمه أم سليم وفي صحيح مسلم من حديث أنس ما يشير إلى ذلك وروى أحمد من حديث ابن عمر نحو هذه القصة وإنما تلقى ذلك ابن عمر من أم سليم أو غيرها . وقد سألت عن هذه المسألة أيضا خولة بنت حكيم عند أحمد والنسائي وابن ماجه وفي آخره " كما ليس على الرجل غسل إذا رأى ذلك فلم ينزل " وسهلة بنت سهيل عند الطبراني وبسرة بنت صفوان عند ابن أبي شيبة .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 463 ] قوله : ( إن الله لا يستحيي من الحق ) قدمت هذا القول تمهيدا لعذرها في ذكر ما يستحيى منه والمراد بالحياء هنا معناه اللغوي إذ الحياء الشرعي خير كله . وقد تقدم في كتاب الإيمان أن الحياء لغة : تغير وانكسار وهو مستحيل في حق الله تعالى فيحمل هنا على أن المراد أن الله لا يأمر بالحياء في الحق أو لا يمنع من ذكر الحق . وقد يقال إنما يحتاج إلى التأويل في الإثبات [1] ولا يشترط في النفي أن يكون ممكنا لكن لما كان المفهوم يقتضي أنه يستحيي من غير الحق عاد إلى جانب الإثبات فاحتيج إلى تأويله قاله ابن دقيق العيد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( هل على المرأة من غسل ) " من " زائدة وقد سقطت في رواية المصنف في الأدب .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( احتلمت ) الاحتلام افتعال من الحلم بضم المهملة وسكون اللام وهو ما يراه النائم في نومه يقال منه حلم بالفتح واحتلم والمراد به هنا أمر خاص منه وهو الجماع . وفي رواية أحمد من حديث أم سليم أنها قالت : يا رسول الله إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل ؟ .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا رأت الماء ) أي المني بعد الاستيقاظ وفي رواية الحميدي عن سفيان عن هشام إذا رأت إحداكن الماء فلتغتسل وزاد " فقالت أم سلمة : وهل تحتلم المرأة ؟ " وكذلك روى هذه الزيادة أصحاب هشام عنه غير مالك فلم يذكرها وقد تقدمت من رواية أبي معاوية عن هشام في باب الحياء في العلم وفيه " أوتحتلم المرأة ؟ " وهو معطوف على مقدر يظهر من السياق أي أترى المرأة الماء وتحتلم ؟ وفيه " فغطت أم سلمة وجهها " ويأتي في الأدب من رواية يحيى القطان عن هشام " فضحكت أم سلمة " ويجمع بينهما بأنها تبسمت تعجبا وغطت وجهها حياء ولمسلم من رواية وكيع عن هشام " فقالت لها : يا أم سليم فضحت النساء " وكذا لأحمد من حديث أم سليم وهذا يدل على أن كتمان مثل ذلك من عادتهن ; لأنه يدل على شدة شهوتهن للرجال .

                                                                                                                                                                                                        وقال ابن بطال : فيه دليل على أن كل النساء يحتلمن وعكسه غيره فقال : فيه دليل على أن بعض النساء لا يحتلمن والظاهر أن مراد ابن بطال الجواز لا الوقوع أي فيهن قابلية ذلك . وفيه دليل على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال ونفى ابن بطال الخلاف فيه وقد قدمناه عن النخعي . وكأن أم سليم لم تسمع حديث " الماء من الماء " أو سمعته وقام عندها ما يوهم خروج المرأة عن ذلك وهو ندور بروز الماء منها .

                                                                                                                                                                                                        وقد روى أحمد من حديث أم سليم في هذه القصة أن أم سلمة قالت يا رسول الله وهل للمرأة ماء ؟ فقال : هن شقائق الرجال وروى عبد الرزاق في هذه القصة " إذا رأت إحداكن الماء كما يراه الرجل " وروى أحمد من حديث خولة بنت حكيم في نحو هذه القصة " ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل " وفيه رد على من زعم أن ماء المرأة لا يبرز ، وإنما يعرف إنزالها بشهوتها وحمل قوله " إذا رأت [ ص: 464 ] الماء " أي علمت به ; لأن وجود العلم هنا متعذر ; لأنه إذا أراد به علمها بذلك وهي نائمة فلا يثبت به حكم ; لأن الرجل لو رأى أنه جامع وعلم أنه أنزل في النوم ثم استيقظ فلم ير بللا لم يجب عليه الغسل اتفاقا فكذلك المرأة وإن أراد به علمها بذلك بعد أن استيقظت فلا يصح ; لأنه لا يستمر في اليقظة ما كان في النوم إن كان مشاهدا فحمل الرؤية على ظاهرها هو الصواب ، وفيه استفتاء المرأة بنفسها وسياق صور الأحوال في الوقائع الشرعية لما يستفاد من ذلك . وفيه جواز التبسم في التعجب وسيأتي الكلام على قوله فبم يشبهها ولدها في بدء الخلق إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية