الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما

                                                          * * *

                                                          ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين، وما كانوا يصنعون مع المؤمنين، وذكر سبحانه وتعالى ما تكنه نفوسهم وما هم عليه من تردد وتذبذب، ومع ذلك فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لهم إن أرادوا أن يسلكوا المنهاج القويم المستقيم. ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الجهر بالسوء إلا ممن ظلم لا يجوز، وأن إبداء الخير خير، وإخفاءه خير وأن الله تعالى مجاز به. وجاءت هاتان الآيتان بين ذكر المنافقين، ثم ذكر الكافرين [ ص: 1937 ] من أهل الكتاب، وكثيرين من المنافقين منهم لبيان أن الجهر بالسوء لغير مصلحة لا يجوز، فإعلان سوء المنافقين كان ممن يظلمون ويتعدى إليهم شرهم، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى حال بعض الكافرين وأسباب كفرهم، ومآلهم، وأحوال أهل الإيمان ونتائج إيمانهم فيقول سبحانه:

                                                          إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون الكفر هو الجحود بالحق، والإيمان هو الإذعان له، والسير على مقتضاه، ومن يؤمن بحقيقتين متلازمتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى لا بد أن يكون إيمانه بالحقيقتين معا، فمن كفر بإحداهما، لا يعد مؤمنا بهما لأنه لا يمكن فصل الواحدة عن الثانية، إذ اللازم يقتضي أن يوجدا معا، أو ينتفيا معا. ومن المقررات أن الإيمان بالرسالة الإلهية والإيمان بالله حقيقتان متلازمتان، فلا يمكن أن يتحقق الإيمان بالله من غير الإيمان برسله، ولا يمكن أن يتحقق الإيمان بالرسالة الإلهية إلا على وجه الكمال بأن يذعن لكل رسالة تجيء من الله تعالى.

                                                          فمن آمن ببعض النبيين وكفر ببعض آخر قامت الأدلة على نبوته لا يعد مؤمنا برسالة الله تعالى ولا يعد مؤمنا بالله تعالى; إذ إنه فصل الجزء الذي لا يتحقق إلا في كل، وفصل الإيمان برسالة الله عن الله تعالى.

                                                          وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية صفتين لهم، ونتيجتين باطلتين: أما الوصفان فهما الكفر بالله ورسله، ومحاولتهم أن يفرقوا بين الله ورسله.

                                                          والكفر بالله تعالى هو هنا جحود رسالته الإلهية التي يبعث بها إلى خلقه; لأن جحود رسالة الرسل أو بعضهم مع قيام الدليل عليها جحود بالله الذي بعث بهذه الرسالة; لأن إنكار الرسالة الإلهية لنبي من الأنبياء عصيان لله وجحود به، وكفر بأصل الرسالات ومرسلها، إذ إن الإيمان بالله تعالى يستلزم الإيمان بأنه لم يخلق الناس سدى، والإيمان بعقابه وثوابه وحسابه والإيمان بأنه يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فمن أنكر رسالة رسول من الرسل فقد كفر بالله وكفر برسله; لأن الكفر برسول ينسحب عليه بقية الرسل، إذ إن ما ثبت من تكذيب لرسول، فقد كذب الباقين، فمن كفر بموسى فقد كفر بمحمد وإبراهيم وعيسى ، وغيرهم من الرسل. [ ص: 1938 ] والوصف الثاني إرادتهم أن يفرقوا بين الله والرسل، بأن يعلنوا إيمانهم بالله خالق السماوات والأرض، والإنكار لبعض الرسل، فإن ذلك تفريق بين الله ورسله، إذ إن علاقة الرسل بخالق السماوات والأرض واحدة، ومن كفر ببعض الرسل، فإنه يفرق بين الله وأولئك الرسل الذين كفر بهم، فاليهود يفرقون بين الله ورسله; لأنهم لا يؤمنون بعيسى ابن مريم، ومحمد بن عبد الله ، وهم بذلك يفرقون، وقد فسر بعضهم إرادتهم التفرقة بين الله ورسله أنهم يؤمنون بالله تعالى، وينكرون الرسالة الإلهية، وهو تفسير يحتمله النص، ولكنه بعيد لأن السياق يأباه.

                                                          وأما النتيجتان الباطلتان فهما قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض، واتخاذهم بذلك سبيلا بين الإنكار المطلق، والإيمان الكامل، وإن ذلك القول متلازم مع الكفر بالله وبرسله؛ إذ إن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان، والتصديق بالرسالة الإلهية حق التصديق يستلزم، كما نوهنا الإيمان بكل الرسل; لأنهم جميعا أتوا بغاية واحدة، وهي إصلاح الخليقة في ناحية رسالة كل رسول، وحثها على الجادة المستقيمة والإنذار والتبشير، ولا يصح لهذا أن يقال نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض؛ لأن الكفر بالبعض كفر بالكل، إذ هو جحود للغاية من الرسالة، وجحود بذات الرسالة.

                                                          وأما إرادتهم اتخاذ سبيل أي طريق وسط بين الإيمان الكامل بكل الرسل، والكفر الكامل بكل الرسل، فمؤداه أن يكونوا في حال بين الإيمان والكفر. ولا شك أن هذه الحال ليست إيمانا بالله ورسله وليس بعد الإيمان إلا الكفر، فهم داخلون في سلك الكافرين، سواء أكانوا مؤمنين بالبعض أم كافرين بالكل، ولذلك حكم الله تعالى بهذا الحكم الحاسم الفاصل ما بين الكفر والإيمان بقوله تعالى:

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية