الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون

هذه آية تتضمن الخبر عن قوم مخالفين لمن تقدم ذكرهم في أنهم أهل إيمان واستقامة وهداية. وظاهر لفظ هذه الآية يقتضي كل مؤمن كان من لدن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة. قال النحاس : فلا تخلو الدنيا في وقت من الأوقات من داع يدعو إلى الحق.

[ ص: 99 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

سواء بعد صوته أو كان خاملا.

وروي عن كثير من المفسرين أنها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذه الآية لكم، وقد تقدم مثلها لقوم موسى".

وقوله تعالى: والذين كذبوا بآياتنا الآية وعيد، والإشارة إلى الكفار، و سنستدرجهم معناه: سنسوقهم شيئا بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب. وقوله تعالى: من حيث لا يعلمون معناه: من حيث لا يعلمون أنه استدراج لهم، وهذه عقوبة من الله على التكذيب بالآيات، لما حتم عليهم بالعذاب أملى لهم ليزدادوا إثما، وقرأ ابن وثاب والنخعي : "سيستدرجهم" بالياء.

وقوله تعالى: "أملي" معناه: أؤخر ملاءة من الدهر، أي مدة. وفيها ثلاث لغات: فتح الميم وضمها وكسرها. وقرأ عبد الحميد عن ابن عامر : "أن كيدي" على معنى: لأجل أن كيدي، وقرأ جمهور الناس وسائر السبعة: "إن كيدي" على القطع والاستئناف.

[ ص: 100 ] و"متين" معناه: قوي، قال الشاعر:


لآل علينا واجب لا نضيعه ... متين قواه غير منتكث الحبل



وروى ابن إسحاق في هذا البيت "أمين قواه"، وهو من المتن الذي يحمل عليه لقوته، ومنه قول الشاعر وهو امرؤ القيس:


لها متنتان خظاتا كما ...     أكب على ساعديه النمر



وهما جنبتا الظهر، ومنه قول الآخر:


عدلن عدول اليأس وافتج يبتلي ...     أفانين من الهوب شد مماتن



ومنه قول امرئ القيس:


ويخدي على صم صلاب ملاطس ...     شديدات عقد لينات متان



[ ص: 101 ] ومنه الحديث في غزوة بني المصطلق: "فمتن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس" أي: سار بهم سيرا شديدا لينقطع الحديث بقول ابن أبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة الآية.

وقوله تعالى: أولم يتفكروا ما بصاحبهم الآية، تقرير يقارنه توبيخ للكفار، والوقف على قوله: أولم يتفكروا ، ثم ابتدأ القول بنفي ما ذكروه: ما بصاحبهم من جنة أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى: أو لم يتفكروا أنه ما بصاحبهم من جنة؟ .

وسبب نزول هذه الآية فيما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلا على الصفا، فجعل يدعو قبائل قريش: يا بني فلان، يا بني فلان، يحذرهم ويدعوهم إلى الله، فقال بعض الكفار حين أصبحوا: هذا مجنون بات يصوت حتى الصباح فنفى الله عز وجل ما قالوه من ذلك في هذا الموطن المذكور وفي غيره، فإن الجنون بعض ما رموه به حتى أظهر الله نوره، ثم أخبر أنه نذير أي محذر من العذاب، ولفظ النذارة إذا جاء مطلقا، فإنما هو في الشر، وقد يستعمل في الخير مقيدا به، ويظهر من رصف الآية أنها باعثة لهم على الفكرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس به جنة، كما أحالهم بعد هذه الآية على النظر، ثم بين المنظور فيه كذلك أحال هنا على الفكرة ثم بين المتفكر فيه.

وقوله تعالى: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء الآية، هذا أيضا توبيخ للكفار وتقرير، والنظر هنا بالقلب عبرة وفكرا، و"ملكوت" بناء عظمة ومبالغة، وقوله سبحانه: وما خلق الله من شيء لفظ يعم جميع ما ينظر فيه ويستدل به، من الصنعة الدالة على الصانع، ومن نفس الإنس وحواسه ومواضع رزقه، والشيء واقع على الموجودات. وقوله: وأن عسى عطف على قوله: في ملكوت . و"وأن" الثانية في موضع رفع بـ "عسى"، والمعنى توقيفهم على أن لم يقع لهم نظر في شيء من هذا، ولا في أنه قربت آجالهم، فماتوا ففات أوان الاستدراك ووجب عليهم المحذور.

[ ص: 102 ] ثم وقفهم بأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذا لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة؟ ونحو هذا قول الشاعر:


وعن أي نفس بعد نفسي أقاتل؟



والضمير في قوله سبحانه: "بعده" يراد به القرآن، وقيل: المراد به محمد صلى الله عليه وسلم وقصته وأمره أجمع، وقيل: هو عائد على الأجل، إذ لا عمل بعد الموت.

التالي السابق


الخدمات العلمية