الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثامن والتسعون بين قاعدة البقاع جعلت المظان منها معتبرة في أداء الجمعات وقصر الصلوات وبين قاعدة الأزمان لم تجعل المظان منها معتبرة في رؤية الأهلة ولا دخول أوقات العبادات وترتيب أحكامها ) .

اعلم أن الفرق بين هاتين القاعدتين مبني على قاعدة وهي أن الوصف الذي هو معتبر في الحكم إن أمكن انضباطه لا يعدل عنه إلى غيره كتعليل التحريم في الخمر بالسكر والربا بالقوت وغير ذلك من الأوصاف المعتبرة في الأحكام ، وإن كان غير منضبط أقيمت مظنته مقامه وعدم الانضباط إما لاختلاف مقاديره في رتبه كالمشقة لما كانت سببا للقصر وهي غير منضبطة المقادير فليس مشاق الناس سواء في ذلك ، وقد يدرك ظاهرا وقد يدرك خفيا .

ومثل هذا يعسر ضبطه في محاله حتى تضاف إليه الأحكام فأقيمت مظنته مقامه ، وهي أربعة برد فإنها تظن عندها المشقة وكالإنزال [ ص: 166 ] لما كان غير منضبط في الناس بسبب أن من الناس من لا ينزل إلا بالدفق والإحساس باللذة الكبرى ، ومنهم من ينزل تقطيرا من غير اندفاق في أول الأمر ثم يندفق بعد ذلك كثيرا ، ولذلك يحصل الولد مع العزل ، والإنسان يعتقد أنه ما أنزل وهو قد أنزل على سبيل السيلان من غير دفق فيحصل الولد من ذلك وهو لا يشعر ، ولما كان الإنزال مختلفا في الناس أقيمت مظنته مقامه وهو التقاء الختانين فإن قلت مجرد الالتقاء لا يحصل به الإنزال فكيف جعل مظنة الإنزال ، وهو لا يظن عنده ومن شرط المظنة أن يظن عندها الوصف المطلوب لتعليق الحكم عليه .

قلت : لا نسلم أنه لا يظن فمن الناس من ينزل بمجرد الملاقاة ومنهم من ينزل بالفكر ، ومنهم من ينزل بالنظر فقط فالتقاء الختانين أقوى من ذلك فجعل مظنة ومن ذلك العقل الذي هو مناط التكليف يختلف في الناس بسبب اعتدال المزاج وانحرافه فرب صبي لاعتدال مزاجه أعقل من رجل بالغ لانحراف مزاجه وذلك يختلف في الرجال والصبيان جدا فجعل البلوغ مظنته ؛ لأن البلوغ منضبط وهو غير منضبط هذا فيما لا ينضبط لاختلاف رتبه في مقاديره .

أما ما ينضبط في مقاديره لكنه خفي لا يطلع عليه فذلك كالرضا في انتقال الأملاك لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه } والرضا أمر خفي فجعلت الصيغ والأفعال في بيع المعاطاة قائمة مقامه ؛ لأنه يظن عندها وألغي الرضا إذا انفرد حتى لو اعترف بأنه رضي بانتقال الملك في الزمن الماضي من غير أن يكون صدر منه قول أو فعل لم يلزمه انتقال الملك ، وكذلك لو حصلت مشقة السفر بدون مسافة القصر لم ترتب عليها رخص المشقة من القصر والإفطار ، فإذا أقام الشرع مظنة الوصف مقامه أعرض عن اعتباره في نفسه نعم لا بد أن يكون متوقعا مع المظنة فلو قطعنا بعدمه عند المظنة فالقاعدة أنه لا يترتب على المظنة حكم كما لو قطعنا بعدم الرضا مع الإكراه على صدور الصيغة أو الفعل غير [ ص: 167 ] أن هذا المعنى مع أنه الأصل خولف في التقاء الختانين فإنا لو قطعنا بعدم الإنزال وجب الغسل ، وخولف أيضا في قولهم في شارب الخمر إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فيكون عليه حد المفتري فأقيم الشرب الذي هو مظنة القذف مقامه ، ونحن مع ذلك نقيم الحد في الشرب على من نقطع بأنه لم يقذف .

وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يستشكل الأثر الوارد في الشرب في هذا المعنى بهذه العبارة ، ويقول كيف تقام المظنة مقام القذف ونحن نقطع بعدم القذف في حق بعض الناس لكن يمكن أن يجاب عن الأثر بما شهد له بالاعتبار من التقاء الختانين فإنه ورد فيه الحديث النبوي .

وهذا قد نقطع فيه بعدم المظنون عند وجود مظنته في بعض الصور فإن قلت : ما الفرق بين المظنة والحكمة التي اختلف في التعليل بها وما الفرق بين الثلاثة الوصف والمظنة والحكمة ؟ قلت : الحكمة هي التي توجب كون الوصف علة معتبرة في الحكم فإذا ثبت كونه معتبرا في الحكم إن كان منضبطا اعتمد عليه من غير مظنة تقام مقامه ، وإن لم يكن منضبطا أقيمت مظنته مقامه فالحكمة في الرتبة الأولى ، والوصف في الرتبة الثانية والمظنة في الرتبة الثالثة ومثال الثلاثة في المبيع أن حاجة المكلف إلى ما في يده من الثمن أو المثمن هو المصلحة الموجبة لاعتبار الرضا ، وهي المصيرة له سببا للانتقال ومظنة الإيجاب والقبول فالحاجة هي في الرتبة الأولى ؛ لأنها هي الموجبة لاعتبار الرضا فاعتبار الرضا فرعها .

واعتبار الإيجاب والقبول فرع اعتبار الرضا ومثال الثلاثة أيضا في السفر أن مصلحة المكلف في راحته ، وصلاح جسمه يوجب أن المشقة إذا عرضت توجب عنه تخفيف العبادة لئلا تعظم المشقة فتضيع مصالحه بإضعاف جسمه وإهلاك قوته فحفظ صحة الجسم وتوفير قوته هو المصلحة والحكمة الموجبة لاعتبار وصف المشقة بسبب الترخص ، فالمشقة في الرتبة الثانية منها ؛ لأن الأثر فرع المؤثر [ ص: 168 ] والمظنة المشقة واعتبارها فرع اعتبار المشقة فهي في الرتبة الثالثة ، ومثال الحكمة والوصف من غير مظنة فيما هو منضبط الرضاع وصف موجب للتحريم وحكمته أنه يصير جزء المرأة الذي هو اللبن جزء الصبي الرضاع فناسب التحريم بذلك لمشابهته للنسب ؛ لأن منيها وطمثها جزء الصبي فلما كان الرضاع كذلك قال صلى الله عليه وسلم { الرضاع لحمة كلحمة النسب } فالجزئية هي الحكمة وهي في الرتبة الأولى والرضاع الذي هو الوصف في الرتبة الثانية ، ووصف الزنا موجب للحد وحكمته الموجبة لكونه كذلك اختلاط الأنساب فاختلاط الأنساب في الرتبة الأولى وهي الحكمة ووصف الزنا في الرتبة الثانية ، وكذلك ضياع المال هو الموجب لكون وصف السرقة سبب القطع فضياع المال في الرتبة الأولى ، ووصف السرقة في الرتبة الثانية ، ولما كان وصف الرضاع والزنا والسرقة منضبطا لم يحتج إلى مظنة تقوم مقام هذه الأوصاف فلم يحتج للمرتبة الثانية ، ويلزم من جواز التعليل بالحكمة أن يلزم أنه لو أكل صبي من لحم امرأة قطعة أن تحرم عليه ؛ لأن جزأها صار جزأه .

ولم يقل به أحد ولو وجد إنسان يأخذ الصبيان من أمهاتهم صغارا ويأتي بهم كبارا بحيث لا يعرفون بعد ذلك أن يقام عليه حد الزنا بسبب أنه أوجب اختلاط الأنساب ، ولم يقل به أحد وأن من ضيع المال بالغصب والعدوان أن يجب عليه حد السرقة ولم يقل به أحد ولأجل هذه المعاني خالف الجمهور بالتعليل بالمظنة ، فقد ظهر الفرق بين المظنة والوصف والحكمة من هذا الوجه ، وبين الحكمة والمظنة فرق من وجه آخر ، وذلك أن الحكمة إذا قطعنا بعدمها لا يقدح ذلك في ترتب الحكم كما إذا قطعنا بعدم اختلاط الأنساب من الزنا بأن تحيض المرأة ، ويظهر عدم حملها ومع ذلك نقيم الحد ونأخذ المال المسروق من السارق ، ونجزم بعدم ضياع المال ، ومع ذلك نقيم حد السرقة .

وأما المظنة فيها بعدم المظنون فالغالب في [ ص: 169 ] في موارد الشريعة عدم اعتبار المظنة ، وذلك فيمن أكره على الكفر أو العقود الناقلة للأملاك أو الموجبة للطلاق والعتاق وغير ذلك فإن تلك المظان يسقط اعتبارها بالإكراه ولا يترتب عليها شيء ألبتة مما شأنه أن يترتب عليه عدم الإكراه فهذا فرق آخر بين المظنة والحكمة من جهة أن القطع بعدم الحكمة لا يقدح ، والقطع بعدم مظنون المظنة يقدح ، وينبغي أن يتفطن لهذه القاعدة وهذه التفاصيل فهي وإن انبنى عليها بيان هذا الفرق فهي يحتاج إليها الفقهاء رحمهم الله كثيرا في موارد الفقه والترجيح والتعليل إذا تقررت هذه القاعدة .

فنقول إنما اعتبرت البقاع في الجمعات وهي ثلاثة أميال في الإتيان إليها ؛ لأنها مظنة أذانها وسماعه من تلك المسافة إذا هدأت الأصوات وانتفت الموانع لقوله صلى الله عليه وسلم { الجمعة على من سمع النداء } فجعل مظنة السماع مقام السماع ، ولذلك جعلت البقاع التي في مسافة القصر معتبرة في قصر الصلوات ؛ لأنها مظنة المشقة الموجبة للترخيص .

وأما أهلة شهور العبادات كرمضان وشوال وذي الحجة ونحوها فلا حاجة فيها إلى مظنة من جهة الزمان بسبب أن القطع بحصولها موجود من جهة الرؤية أو إكمال العدة ، فيحصل القطع بالمعنى المقصود فلا حاجة إلى مظنة من جهة أن الزمان يقوم مقامه فإن المظنة إنما تعتبر عند عدم الانضباط ، أما معه فلا فإذا ظننا أن الهلال يطلع في هذه الليلة بسبب قرائن تقدمت إما من توالي تمام الشهور فنظن نقص هذا الشهر أو من جهة توالي النقص فنظن تمام هذا الشهر أو من جهة طلوع القمر ليلة البدر قبل غروب الشمس فنظن تمام هذا الشهر أو من جهة تأخره في الطلوع عند غروب الشمس فنظن نقصان هذا الشهر وغير ذلك من الأمارات الدالة عند أرباب المواقيت على رؤية الأهلة ، ويوجب أن هذه الليلة هي مظنة رؤية الهلال فإنا لا نعتبر شيئا من ذلك ولا نقيم المظنة مقام الرؤية ؛ لأن لنا طريقا للوصول إلى [ ص: 170 ] الوصف المطلوب إما بالرؤية أو بكمال العدة ، والقاعدة أنه لا يعدل إلى المظنة إلا عند عدم انضباط الوصف دائما أو في الأغلب ، وهاهنا ليس كذلك فلذلك سقط اعتبار المظان من الأزمنة ، وكذلك أوقات الصلوات لما كانت منضبطة في نفسها لحصول القطع بها في أكثر صورها لم تقم مظانها في الصور مقامها ، وبهذا ظهر الفرق بين قاعدة البقاع أقيمت مظانها مقامها وبين الأزمنة لم يقم مظانها في الصور المذكورة ، وسره ما تقدم من القاعدة الكلية التي تقدم تقريرها قبل .

التالي السابق


حاشية ابن حسين المكي المالكي

[ ص: 171 - 172 ] الفرق الثامن والتسعون بين قاعدة البقاع جعلت المظان منها معتبرة في أداء الجمعات وقصر الصلوات وبين قاعدة الأزمان لم تجعل المظان منها معتبرة في رؤية الأهلة ولا دخول أوقات العبادات وترتيب أحكامها ) ، وذلك أن شهور العبادات كرمضان وشوال وذي الحجة ونحوها لما وجد القطع بحصولها وحصول المعنى المقصود منها شرعا من جهة الرؤية لأهلها وكمال العدة كانت وصفا ظاهرا منضبطا دائما ، أو في الأغلب غير محتاج في تعريفه للحكم إلى اعتبار مظنته معه كظننا أن الهلال يطلع في هذه الليلة بسبب قرائن تقدمت إما من جهة توالي تمام الشهر فنظن نقص هذا الشهر ، أو من جهة توالي النقص فنظن تمام هذا الشهر أو من جهة طلوع القمر ليلة البدر قبل غروب الشمس فنظن تمام هذا الشهر أو من جهة تأخره في الطلوع عند غروب الشمس فنظن نقصان هذا الشهر وغير ذلك من الأمارات الدالة عند أرباب المواقيت على أن هذه الليلة هي مظنة رؤية الأهلة ، إذ مع تيسر الوصول إلى الوصف المطلوب إما بالرؤية أو بكمال العدة لا نعتبر شيئا من تلك المظان ، وكذلك أوقات الصلوات لما كانت منضبطة في نفسها لحصول القطع بها في أكثر صورها لم تقم مظانها في الصور مقامها .

وأما سماع نداء الجمعة الموجبة لأداء الجمعة في قوله صلى الله عليه وسلم { الجمعة على من سمع النداء } ومشقة السفر الموجبة لترخيص القصر والفطر فإنه لما كان كل واحد منهما وصفا غير منضبط أنيط الحكم بمظنته فاعتبرت في الجمعات البقاع ، وهي ثلاثة أميال في الإتيان إليها ؛ لأنه من تلك المسافة يظن سماع أذانها إذا هدأت الأصوات وانتفت الموانع ، واعتبرت في ترخيص القصر والفطر البقاع التي على أربعة برد ؛ لأنها مظنة المشقة الموجبة للترخيص ، وبالجملة فالسماع لعدم انضباطه جعلت مظنته من البقاع مقامه والمشقة لعدم انضباطها جعلت مظنتها من البقاع مقامها ، وأوقات العبادات لما كانت منضبطة لم تجعل مظانها [ ص: 177 ] مقامها ، فالبقاع اعتبرت من حيث إنها سبب غير منضبط ، والأوقات اعتبرت من حيث إنها سبب منضبط فلم تعتبر مظانها فظهر الفرق بين قاعدتي البقاع والأزمان ( وصل ) مبنى هذا الفرق وسره قاعدة أن الوصف المعرف للحكم إن كان وصفا ظاهرا منضبطا لم يعدل عنه إلى غيره كالسكر في تحريم الخمر والقوت في الربا ، وإن كان وصفا خفيا أو غير منضبط أقيمت مظنته مقامه ، أما الخفي الذي لا يطلع عليه فكالرضا في انتقال الأملاك لقوله صلى الله عليه وسلم { لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه } فإن الرضا لما كان أمرا خفيا جعلت الصيغ والأفعال في بيع المعاطاة قائمة مقامه ؛ لأنه يظن عندها وألغي الرضا إذا انفرد عنها حتى لو اعترف بأنه رضي بانتقال الملك في الزمن الماضي من غير أن يكون صدر منه قول أو فعل لم يلزمه انتقال الملك .

وأما غير المنضبط لاختلاف مقاديره في رتبه فكمشقة السفر في ترخيص القصر والإفطار فإنها لما كانت سببا لذلك الترخيص ، وهي غير منضبطة المقادير إذ ليس مشاق الناس سواء في ذلك أقيمت مظنته مقامه وهي أربعة برد فإن المشقة تظن عندها وكالإنزال في وجوب الغسل وحصول نسبة الولد فإنه لما كان غير منضبط في الناس بسبب أن منهم من لا ينزل إلا بالدفق والإحساس باللذة الكبرى ، ومنهم من ينزل تقطيرا على سبيل السيلان من غير اندفاق في أول الأمر ، ثم يندفق بعد ذلك كثيرا ، ولذلك يحصل الولد مع العزل ، والإنسان يعتقد أنه ما أنزل أقيمت مظنته مقامه وهي التقاء الختانين ؛ لأنه لما كان من الناس من ينزل بمجرد الملاقاة ، ومنهم من ينزل بالفكر ، ومنهم من ينزل بالنظر فقط ، وكان التقاء الختانين أقوى من ذلك جعل مظنة وكالعقل في التكليف فإنه لما كان غير منضبط بسبب اختلافه في الرجال والصبيان جدا بحسب اعتدال المزاج وانحرافه فرب صبي لاعتدال مزاجه أعقل من رجل بالغ لانحراف مزاجه جعل البلوغ مقامه ؛ لأنه مظنته وهو منضبط ، إذا أقام الشرع مظنة الوصف مقامه أعرض عن اعتباره في نفسه نعم لا بد أن يكون متوقعا مع المظنة فلو قطعنا بعدمه عند المظنة .

فالقاعدة أنه لا يترتب على المظنة حكم كما لو قطعنا بعدم الرضا مع الإكراه على صدور الصيغة أو الفعل غير أن هذا المعنى وإن كان هو الأصل قد خولف في مواضع منها التقاء الختانين فإنا لو قطعنا بعدم الإنزال وجب الغسل ، ومنها قولهم في شارب الخمر إنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فيكون عليه حد المفتري فأقيم الشرب الذي هو مظنة القذف مقامه ، ونحن مع ذلك نقيم الحد على من نقطع أنه لم يقذف حتى إن الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى كان يقول كيف تقام المظنة مقام القذف ونحن نقطع بعدم القذف في بعض الناس ، لكن يمكن أن يجاب عن الأثر بما شهد له بالاعتبار من التقاء الختانين فإنه ورد فيه الحديث النبوي مع أنا قد نقطع فيه بعدم المظنون عند وجود مظنته في بعض الصور ، والفرق بين الوصف والمظنة والحكمة هو أن الحكمة هي التي توجب كون الوصف علة معتبرة في الحكم فإذا ثبت كونه معتبرا في الحكم فإن كان خفيا أو غير منضبط أقيمت مظنته مقامه ، وحينئذ تجتمع الثلاثة ، ولذلك مثل منها البيع فإن حاجة المكلف إلى ما في يده من [ ص: 178 ] الثمن أو المثمن هو المصلحة والحكمة الموجبة لاعتبار الرضا ، وجعله سببا لانتقال الملك ، ومظنة الرضا الإيجاب والقبول فالحاجة في الرتبة الأولى لكونها الموجبة لاعتبار الرضا واعتبار الرضا في الرتبة الثانية ؛ لأنه فرعها واعتبار الإيجاب والقبول في الرتبة الثالثة ؛ لأنه مظنة اعتبار الرضا وفرعه ومنها السفر فإن راحة المكلف وصلاح جسمه مصلحة وحكمة توجب أن المشقة إذا عرضت أوجبت تخفيف العبادة عنه لئلا تعظم المشقة فتضيع مصالحه بإضعاف جسمه وإهلاك قوته .

ومظنة المشقة أربعة البرد فحفظ صحة الجسم وتوفير قوته في الرتبة الأولى لكونه هو الموجب لاعتبار وصف المشقة ، والمشقة في الرتبة الثانية ؛ لأنها أثره والأثر فرع المؤثر ، وأربعة البرد في الرتبة الثالثة لأن اعتبارها فرع اعتبار المشقة وإن كان الوصف ظاهرا منضبطا اعتمد عليه من غير أن تقام مظنته مقامه تتحقق الحكمة والوصف من غير مظنة وله مثل منها أن الرضاع وصف ظاهر منضبط للتحريم ، وحكمته أنه يصير جزء المرأة الذي هو اللبن جزء الصبي الرضيع فناسب أن يكون إيجاب التحريم بالرضاع نظير إيجاب صيرورة مني المرأة وطمثها جزء الصبي للتحريم بالنسب .

فلذا قال صلى الله عليه وسلم { الرضاع لحمة كلحمة النسب } فالجزئية في الرتبة الأولى وهي الحكمة ، ووصف الرضاع في الرتبة الثانية لأنه فرعها ، ومنها أن الزنا وصف كذلك موجب للحد واختلاط الأنساب حكمته الموجبة لكونه كذلك فالاختلاط في الرتبة الأولى ، ووصف الزنا الرتبة الثانية ، ومنها أن السرقة وصف كذلك موجب للقطع وضياع المال حكمته الموجبة لكونه كذلك فضياع المال في الرتبة الأولى ، ووصف السرقة في الرتبة الثانية فوصف كل من الرضاع والزنا والسرقة لما كان ظاهرا منضبطا لم يحتج لقيام مظنته مقامه فلم يحتج للرتبة الثالثة ، ولا يلزم من جواز التعليل بالحكمة أن يترتب الحكم على كل من تحققت فيه تلك الحكمة ، وإلا لحرمت المرأة على صبي أكل منها قطعة لحم لتحقق صيرورة جزئها جزءا منه ، ولوجب حد الزنا على من يأخذ الصبيان من أمهاتهم صغارا .

ويأتي بهم كبارا بحيث لا يعرفون بعد ذلك بسبب أنه أوجب اختلاط الأنساب ، ولوجب حد السرقة على من ضيع المال بالغصب والعدوان ولم يقل بذلك كله أحد ، ويلزم ذلك جواز التعليل بالمظنة فلذا قال الجمهور بالتعليل بها ، ولم يقولوا بالتعليل بالحكمة فافهم ، ويفرق بين الحكمة والمظنة من وجه آخر وهو أنه لا يقدح في ترتب الحكم القطع بعدم الحكمة ألا ترى أنا نقيم حد الزنا وحد السرقة وإن قطعنا بعدم اختلاط الأنساب من الزنا بأن تحيض المرأة ويظهر عدم حملها أو جزمنا بعدم ضياع المال بسبب أخذ المال المسروق ، والغالب في موارد الشريعة عدم اعتبار المظنة إذا قطعنا فيها بعدم المظنون ألا ترى أن نحو الكفر والعقود الناقلة للأملاك أو الموجبة للطلاق والعتاق من المظان يسقط اعتبارها بالإكراه لا يترتب عليها شيء ألبتة مما شأنه أن يترتب عليها عند عدم الإكراه فليتفطن لهذه القاعدة وهذه التفاصيل فإنها وإن ذكرت هنا لبناء الفرق المذكور عليها ، وكونها سره إلا أنها يحتاج إليها الفقهاء رحمهم الله كثيرا في موارد الفقه والترجيح والتعليل [ ص: 179 ] والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية