الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
566 ( حديث أول لابن شهاب ، عن ابن كعب بن مالك ) .

مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، أنه أخبر أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه .

التالي السابق


لم يختلف عن مالك في هذا الحديث ، ومن أفضل من رواه عنه المعافى بن عمران حدثنا خلف بن قاسم حدثنا أحمد بن عبيد بن أحمد بن سعيد الصفار حدثنا الحسن بن علي الضبي ، حدثنا المعافى بن عمران ، حدثنا مالك ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك الأنصاري أنه أخبره ، أن أباه كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله إلى جسده .

وفي رواية مالك هذه بيان سماع الزهري لهذا الحديث من عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، وكذلك رواه يونس ، عن الزهري قال : سمعت عبد الرحمن بن كعب بن مالك يحدث ، عن أبيه أن [ ص: 57 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما نسمة المؤمن ، وذكر الحديث .

وكذلك رواه الأوزاعي ، عن الزهري قال : حدثني عبد الرحمن بن كعب .

ورواه محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ( عن أبيه فاتفق مالك ، ويونس بن يزيد ، والأوزاعي ، والحارث بن فضيل على رواية هذا الحديث ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه ) .

ورواه شعيب بن أبي حمزة ، ومحمد بن أخي الزهري ، وصالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك ، فاتفق هؤلاء على أن جعلوا الحديث لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن جده كعب بن مالك .

ذكره إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أنه بلغه أن كعب بن مالك كان يحدث .

وذكر أبو اليمان حدثنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث مالك سواء .

[ ص: 58 ] ورواه معمر ، وعقيل ، وعمرو بن دينار ، عن الزهري ، عن ابن كعب لم يقولوا عبد الله ، ولا عبد الرحمن ، ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، وذكره الليث ، عن عقيل ، وذكره ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الزهري كلهم ، عن ابن كعب بن مالك في حديث نسمة المؤمن كل هذا ، وقال محمد بن يحيى : المحفوظ عندنا - والله أعلم - هذا ، وهو الذي يشبه حديث صالح بن كيسان ، وشعيب ، وابن أخ ابن شهاب .

قال أبو عمر :

لا وجه عندي لما قاله محمد بن يحيى من ذلك ، ولا دليل عليه ، واتفاق مالك ، ويونس ، والأوزاعي ، ومحمد بن إسحاق أولى بالصواب ، والنفس إلى قولهم وروايتهم أميل وأسكن ، وهم في الحفظ والإتقان بحيث لا يقاس عليهم غيرهم ممن خالفهم في هذا الحديث ، وبالله التوفيق .

وأما قوله : نسمة المؤمن ، والنسمة هاهنا الروح ، يدلك على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث نفسه : حتى يرجعه الله إلى جسده يوم القيامة ، وقيل : النسمة : النفس ، والروح ، والبدن ، وأصل هذه اللفظة أعني النسمة الإنسان بعينه ، وإنما قيل للإنسان نسمة - والله أعلم - ; لأن حياة الإنسان بروحه فإذا فارقته عدم أو صار كالمعدم ، والدليل على أن النسمة الإنسان قوله - صلى الله عليه وسلم - : من أعتق نسمة مؤمنة ، وقول علي رضي الله عنه : لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة قال الشاعر :


بأعظم منك يقي في الحساب إذا النسمات نفضن الغبارا

[ ص: 59 ] يعني إذا بعث الناس من قبورهم يوم القيامة ، وقال الخليل بن أحمد : النسمة الإنسان قال : والنسم نفس الروح ، والنسيم هبوب الريح ، وقوله : تعلق في شجر الجنة يروى بفتح اللام ، وهو الأكثر ، ويروى بضم اللام ، والمعنى واحد ، وهو الأكل والرعي يقول : تأكل من ثمار الجنة وترعى وتسرح بين أشجارها ، والعلوقة والعلاق والعلوق : الأكل والرعي ، وتقول العرب : ما ذاق اليوم علوقا أي طعاما قال الربيع بن زياد يصف الخيل :


( ومجنبات لا يذقن علوقة يمصعن بالمهرات والأمهار
)

يعني : ما يرعين ولا يذقن شيئا قال الأعشى :


وفلاة كأنها ظهر ترس ليس فيها إلا الربيع علاق

واختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال منهم قائلون : أرواح المؤمنين عند الله في الجنة شهداء كانوا ، أم غير شهداء ، إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين ، وتلقاهم ربهم بالعفو عنهم وبالرحمة لهم .

واحتجوا بأن هذا الحديث لم يخص فيه مؤمنا شهيدا من غير شهيد .

واحتجوا أيضا بما روي عن أبي هريرة : أن أرواح الأبرار في عليين ، وأرواح الفجار في سجين .

[ ص: 60 ] وعن عبد الله بن عمر مثل ذلك .

وهذا قول يعارضه من السنة ما لا مدفع في صحة نقله ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة .

وسيأتي هذا الحديث ، وما كان في معناه من صحيح الأثر في باب نافع إن شاء الله تعالى .

وقال آخرون : إنما معنى هذا الحديث في الشهداء دون غيرهم ; لأن القرآن ، والسنة لا يدلان إلا على ذلك ، أما القرآن فقوله عز وجل ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله الآية .

وأما الآثار فمنها ما رواه الثقات في حديث ابن شهاب هذا ، أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن الزهري ، عن ابن كعب بن مالك ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أرواح الشهداء في طير خضر تعلق في شجر الجنة .

ومنها حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا مقدام بن داود قال : حدثنا يوسف بن عدي قال : حدثنا إسماعيل بن المختار ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الشهداء [ ص: 61 ] يغدون ويروحون إلى رياض الجنة ثم يكون مأواهم إلى قناديل معلقة بالعرش ، فيقول الله تبارك وتعالى : هل تعلمون كرامة أفضل من كرامة أكرمتموها ؟ ؟ فيقولون : إنا وددنا أنك أعدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل مرة أخرى في سبيلك .

وذكر بقي بن مخلد قال : حدثنا عباد بن السري ، عن إسماعيل بن المختار ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله .

قال بقي : وحدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن أبي الزبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لما أصيب إخوانكم يوم أحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمرها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ، ومشربهم ، ومقيلهم ، قالوا : من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق ، لئلا ينكلوا عن الحرب ، ولا يزهدوا في الجهاد قال : فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ( قال بقي : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : سألناه عن هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ ص: 62 ] قال : أما إنا فقد سألنا عن ذلك . ، أرواحهم كطير خضر تسرح في الجنة في أيها شاءت ، قالوا : فلما رأوا أنهم لا يتركون قالوا : نسألك أن ترد أرواحنا إلى الدنيا حتى نقتل في سبيلك ، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركهم ) .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن عبد السلام قال : حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء ، ولولا عبد الله ما أخبرنا أحد قال : أرواح الشهداء عند الله إلى يوم القيامة في طير خضر في قناديل تحت العرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت ثم ترجع إلى قناديلها ، فيطلع عليها ربها فيقول : ماذا تريدون ؟ فيقولون : نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى .

ورواه ابن إسحاق ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله مثله بمعناه إلى آخره ، والصواب فيه ما قال أبو معاوية ، وشعبة ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، وكذلك رواه عيسى بن يونس ، عن الأعمش بإسناده مثله .

[ ص: 63 ] وذكر أبي الضحى في هذا الإسناد عندي خطأ ، وأظن الوهم فيه من ابن إسحاق - والله أعلم - .

وقال بقي : حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : أرواح الشهداء تجول في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة .

قال : وحدثنا يحيى بن عبد الحميد ، وجعفر بن حميد قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج فيما قرئ عليه ، عن مجاهد قال : ليس هي في الجنة ، ولكن يأكلون من ثمارها فيجدون ريحها .

قال : وحدثنا ابن المسيب قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون قالوا : يرزقون من ثمر الجنة فيجدون ريحها .

قال : وحدثنا محمد بن عبيد قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون قال : بلغنا أن أرواح الشهداء في صورة طير بيض ، يأكلون من ثمار الجنة .

( ( حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا يحيى بن مالك بن عائد قال : حدثنا محمد بن سليمان بن أبي الشريف قال : حدثنا محمد بن علي قال : حدثنا يزيد بن [ ص: 64 ] سنان قال : حدثنا أبو عاصم النبيل قال : حدثنا ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عبد الله بن عمر ، وقال : الجنة معلقة بقرون الشمس ، تنشرها في كل عام مرة ، وأرواح الشهداء في طير كالزرازير يتعارفون ، ويرزقون من ثمر الجنة ) .

قال أبو عمر :

قد ذكرنا من الآثار عن السلف ما في معنى حديثنا في هذا الباب لقوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة .

وهذه الآثار كلها تدل على أنهم الشهداء دون غيرهم ، وفي بعضها في صورة طير ، وفي بعضها في أجواف طير ، وفي بعضها كطير ، والذي يشبه عندي - والله أعلم - أن يكون القول قول من قال : كطير أو كصور طير ; لمطابقته لحديثنا المذكور ، وليس هذا موضع نظر ، ولا قياس لأن القياس إنما يكون فيما يسوغ فيه الاجتهاد ، ولا مدخل للاجتهاد في هذا الباب ، وإنما نسلم فيه لما صح من الخبر عمن يجب التسليم له .

( روى عيسى بن يونس هذا الحديث ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله فقال : أرواحهم كطير خضر ، وكذلك قال فيه روح بن القاسم ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله : كطير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، وتأوي إلى قناديل تحت العرش .

[ ص: 65 ] وثبت عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت في الشهداء قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وهو قول ابن مسعود ، وأبي سعيد ، وجابر ، وهو الصحيح ، وبالله التوفيق ) .

وللناس أقاويل في مستقر الأرواح غير ما ذكر ، سنذكر ذلك في حديث نافع إن شاء الله تعالى .

فعلى هذا التأويل كأنه قال - صلى الله عليه وسلم - : إنما نسمة المؤمن من الشهداء طائر يعلق في شجر الجنة .

وجاء عن أبي بن كعب رحمه الله ، وجماعة من التابعين في صفة أحوال الشهداء ، وطعامهم في الجنة أقاويل غير هذه ، وإنما ذكرنا في هذا الباب ما في معنى حديثنا ، وما يطابقه ، ويضاهيه ، وبالله التوفيق .

وقال آخرون : أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم ، وكان ابن وضاح يذهب إلى هذا ، ويحتج بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى المقبرة فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين فهذا يدل على أن الأرواح بأفنية القبور ، وقد خالفه غيره فمال إلى الحديث : ( اذهبوا بروحه يعني المؤمن إلى عليين ، وقال في الكافر : اذهبوا بروحه إلى سجين من أسفل الأرض ) ، وقد ذكرنا هذا المعنى في باب نافع ، وباب العلاء من هذا الكتاب ، والحمد لله .




الخدمات العلمية