الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 498 ] باب سجود السهو ( يسجد للسهو في الزيادة والنقصان سجدتين بعد السلام ثم يتشهد ثم يسلم ) وعند الشافعي يسجد قبل السلام لما روي { أنه عليه الصلاة والسلام سجد للسهو قبل السلام } ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { لكل سهو سجدتان بعد [ ص: 499 ] السلام } وروي أنه عليه الصلاة والسلام { سجد سجدتي السهو بعد السلام } فتعارضت روايتا فعله فبقي التمسك بقوله سالما [ ص: 500 ] ولأن سجود السهو مما لا يتكرر فيؤخر عن السلام حتى لو سها عن السلام ينجبر به ، [ ص: 501 ] وهذا خلاف في الأولوية ، ويأتي بتسليمتين هو الصحيح صرفا للسلام المذكور إلى ما هو المعهود .

[ ص: 498 ]

التالي السابق


[ ص: 498 ] ( باب سجود السهو )

( قوله يسجد للسهو ) مقيد بما إذا كان الوقت صالحا حتى أن من عليه السهو في صلاة الصبح إذا لم يسجد حتى طلعت الشمس بعد السلام الأول سقط عنه السجود ، وكذا إذا سها في قضاء الفائتة فلم يسجد حتى احمرت ، وكذا في الجمعة إذا خرج وقتها ، وكل ما يمنع البناء إذا وجد بعد السلام يسقط السهو .

وليس من شرط السجود أن يسلم ومن قصده السجود ، بل لو سلم ذاكرا للسهو من عزمه أن لا يسجد كان عليه أن يسجد ولا يبطل سجوده ، كمن شرع في الصلاة ومن عزمه أن يفسدها لا تفسد إلا بتحقيق ذلك القصد بالفعل ونيته لغو ( قوله ثم يتشهد ) إشارة إلى أن السهو يرفع التشهد .

وأما رفع القعدة فلا بخلاف السجدة الصلبية وسجدة التلاوة إذا تذكرهما أو إحداهما في القعدة فسجدة فإنهما يرفعان القعدة حتى يفترض القعود بعدهما لأن محلهما قبلها . وعلى هذا لو سلم بمجرد رفعه من سجدة السهو يكون تاركا للواجب فلا تفسد بخلاف ما إذا لم يقعد بعد تينك السجدتين حيث تفسد بترك الفرض ، وهذا في سجدة التلاوة على إحدى الروايتين وهو المختار .



( قوله روي { أنه صلى الله عليه وسلم سجد للسهو قبل السلام } ) في الكتب الستة . واللفظ للبخاري عن عبد الله بن بحينة { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس فقام الناس معه . حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم } وروي أنه { سجد بعد السلام } في الستة أيضا حديث ذي اليدين { أنه صلى اثنتين أخريين ثم سلم ثم كبر ثم سجد } ، وفي رواية لمسلم وأبي داود والنسائي { أنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم من ثلاث ، إلى أن قال : فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم } .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم { لكل سهو سجدتان بعد السلام } فرواه أبو داود وابن ماجه عن إسماعيل بن عياش من حديث ثوبان أنه صلى الله عليه وسلم قال { لكل سهو سجدتان بعد السلام } قال البيهقي انفرد به إسماعيل بن عياش وليس بالقوي ، ونحن نمنع ذلك مطلقا بل الحق في ابن عياش توثيقه مطلقا كما هو عن أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين ، قال عباس عن يحيى [ ص: 499 ] ابن معين ثقة ، وتوهينه عن أبي إسحاق الفزاري لا يقبل ، وناهيك بأبي زرعة ، وقال : لم يكن بالشام بعد الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أحفظ من إسماعيل بن عياش ، وغاية ما عن ابن معين فيه قوله عن الشاميين حديثه صحيح وخلق عن المدنيين ، وقد استقر رأي ابن حنبل وكثير على هذا التفصيل .

وروايته لهذا الحديث عن الشاميين رواه عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي وهو الشامي الدمشقي وثقه دحيم ، وقال ابن معين ليس به بأس ، عن زهير بن سالم العنسي بالنون وهو أبو المخارق الشامي ، ذكره ابن حبان في الثقات عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي أبو حميد ، ويقال أبو حمير الحمصي ، قال أبو زرعة والنسائي ثقة ، وقال أبو حاتم صالح الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال محمد بن سعد كان ثقة وبعض الناس يستنكر حديثه ، ولم يلتفت إليه فقد روى له البخاري في الأدب وهو عن ثوبان .

وفي صحيح البخاري في باب التوجه نحو القبلة حيث كان عن ابن مسعود رضي الله عنه { صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم : لا أدري زاد أو نقص ، فلما سلم قيل له : يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء ؟ قال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت كذا وكذا ، فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم ، ثم أقبل إلينا وقال : فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم يسجد سجدتين } فهذا تشريع عام قولي له بعد السلام عن سهو الشك والتحري ، ولا قائل بالفصل بينه أو بين تحقق الزيادة والنقص فقد تم أمر هذا الحديث في حق حجيته .

( قوله فتعارضت روايتا فعله إلخ ) لما أوقع الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم عقيب استدلالهم بالفعل وكان دليلهم أقوى من جهة الثبوت مع قيام دليل عدم الخصوصية ، إذ قد شاركوه في ذلك لأنهم كانوا مقتدين به استشعر أن يقال دليلنا أرجح ثبوتا وترجيح القول على الفعل عند المساواة في القوة فقال ذاك لو سلم دليلكم من المعارض ، لكن روي أنه صلى الله عليه وسلم سجدها بعد السلام وهو يعادله ، فتعارضت روايتا فعله فبقي التمسك بقوله الأحط رتبة في الثبوت من ذلك الفعل لسلامته من المعارض لا لترجيحه بالفعل المروي ثانيا ، ولا لترجيح ذلك الفعل به ليكون ترجيحا بكثرة الرواة ، فظهر بهذا التقرير أنه إنما صير إلى ما بعد الدليلين المتعارضين لا إلى ما فوقهما فاندفع الإشكالان القائلان أن الرسم في المعارضة أن يصار إلى ما بعد المتعارضين كالسنة عند تعارض نص الكتاب ، والقياس عند تعارض السنة لا إلى ما فوقهما والقول فوق الفعل فكيف وقف الصيرورة إليه على تعارض الفعلين ، وإن كان ترجيحا فالترجيح بكثرة الرواة باطل عندنا .

فإن قيل : إذا سقط النظر إلى الفعل [ ص: 500 ] الموافق لرأينا للزوم التساقط بالتعارض يلزم كون السجود بعد السلام فإنه حينئذ مقتضى الدليل القولي فينافيه كون الخلاف في الأولوية حتى لو سجد قبل السلام عندنا يجوز .

فالجواب ما قد روي في غير رواية الأصول أنه قبل السلام لا يجوز فلا إشكال على هذه ، وعلى ما هو الظاهر فلزوم التساقط عند عدم إمكان العمل بالمتعارضين جميعا ، وهنا يمكن إذ المعنى المعقول من شرعية السجود وهو الجبر لا ينتفي بوقوعهما قبل السلام فيجوز كون الفعلين بيانا لجواز الأمرين ، وأولوية أحدهما وهو إيقاعه بعد السلام هو المراد بالقول ، ويؤكده المعنى المذكور في الكتاب وتقريره أن سجود السهو تأخر عن زمان العلة وهو وقت وقوع السهو تفاديا عن تكراره ، إذ الشرع لم يرد به فأخر ليكون جبرا لكل سهو يقع في الصلاة وما لم يسلم فتوهم السهو ثابت ، ألا ترى أنه لو سجد للسهو قبل السلام ثم شك أنه صلى ثلاثا أو أربعا فشغله ذلك حتى أخر السلام . ثم ذكر أنه صلى أربعا فإنه لو سجد بهذا النقص بتأخير الواجب تكرر ، وإن لم يسجد بقي نقصا لازما غير مجبور فاستحب أن يؤخر بعد السلام لهذا المجوز .

وهذا دليل أن الخلاف في الأولوية . وفي الخلاصة لو سجد قبل السلام لا تجب إعادتها بعد السلام فإن قلت : لم لم يحمل اختلاف الفعلين على التوزيع على مورديهما ، ومورد السجود قبل السلام كان في النقص ومورده بعده كان للزيادة على ما تقدم في الخبرين المذكورين ، وهذا التفصيل قول مالك وهذا المأخذ مأخذه .

فالجواب كان ذلك محتما لو لم يثبت قوله صلى الله عليه وسلم { لكل سهو ، أو في كل سهو سجدتان بعد السلام } فلما ورد ذلك لزم حمل اختلاف الفعلين على بيان جواز كلا الأمرين ، غير أن الأولى وقوعه بعد السلام .

ولا يخفى أن بهذا الذي صرنا إليه يقع الجمع بين كل المرويات القولية والفعلية وذلك واجب ما أمكن ، بخلاف ما ذهب إليه مالك والشافعي .

فإن قلت : كما تعارضت روايتا فعله كذلك تعارضت روايات قوله ، فإن في الصحيح حديث الخدري عنه صلى الله عليه وسلم { إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم } وغيره أيضا فالجواب الكلام في سجود السهو على الإطلاق لم يعارض حديث ثوبان فيه دليل قولي أنه على الإطلاق محله قبل السلام ، وهذا الحديث وسائر أمثاله من القوليات خاصة في الشك وليس الكلام الآن في هذا ، على أن القولية في الشك قد تعارضت أيضا ، روى أبو داود والنسائي عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم } ورواه أحمد في مسنده ، قيل وابن خزيمة في صحيحه ، وقال البيهقي : إسناده لا بأس به . وأحسن منه ما في البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه { صلى النبي صلى الله عليه وسلم فزاد أو نقص ، فلما سلم قيل : يا رسول الله أحدث شيء في الصلاة ؟ فقال : وما ذاك ؟ قالوا : صليت كذا وكذا ، قال فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم ، ثم أقبل علينا بوجهه فقال : إنه لو حدث شيء أنبأتكم به ، ولكن إنما أنا بشر أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني ، [ ص: 501 ] وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتين } وهو الذي ذكرناه آنفا مختصرا ( قوله هو الصحيح ) احتراز عما قاله شيخ الإسلام ، وقيل والجمهور ومنهم فخر الإسلام أنه يأتي بتسليمة واحدة ، ثم اختار فخر الإسلام كونها تلقاء وجهه ولا ينحرف لأن الانحراف التحية ، والمراد هنا مجرد التحليل .

ومختار المصنف مختار شمس الأئمة وصدر الإسلام أخي فخر الإسلام . ونسب القائل بالتسليمة إلى البدعة فدفعه أخوه فخر الإسلام بأنه مشار إليه في الأصل في كتاب الصلاة فتقصينا عن عهدة البدعة . وجه مختار المصنف ما قاله من صرف السلام : يعني المذكور في حديث ثوبان إلى ما هو المعهود والسلام المعهود في الصلاة تسليمتان




الخدمات العلمية