الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : وهم على ثلاث طبقات الطبقة الأولى : طائفة علت هممهم ، وصفت [ ص: 163 ] قصودهم . وصح سلوكهم . ولن يوقف لهم على رسم . ولم ينسبوا إلى اسم . ولم يشر إليهم بالأصابع . أولئك ذخائر الله حيث كانوا .

ذكر لهم ثلاث صفات ثبوتية ، وثلاثا سلبية .

الأولى : علو هممهم . وعلو الهمة : أن لا تقف دون الله ، ولا تتعوض عنه بشيء سواه . ولا ترضى بغيره بدلا منه . ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به ، والفرح والسرور والابتهاج له ، بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية . فالهمة العالية على الهمم : كالطائر العالي على الطيور . لا يرضى بمساقطهم ، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم ، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها .

وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان ، فإن الآفات قواطع وجواذب ، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه ، وإنما تجتذب من المكان السافل ، فعلو همة المرء : عنوان فلاحه ، وسفول همته : عنوان حرمانه .

العلامة الثانية : صفاء القصد ، وهو خلاصه من الشوائب التي تعوقه عن مقصوده ، فصفاء القصد : تجريده لطلب المقصود له لا لغيره ، فهاتان آفتان في القصد ؛ إحداهما : أن لا يتجرد لمطلوبه . الثانية : أن يطلبه لغيره لا لذاته .

وصفاء القصد : يراد به العزم الجازم على اقتحام بحر الفناء عند الشيخ ومن وافقه على أن الفناء غاية .

ويراد به : خلوص القصد من كل إرادة تزاحم مراد الرب تعالى ، بل يصير القصد مجردا لمراده الديني الأمري ، وهذه طريقة من يجعل الغاية : هي الفناء عن إرادة السوى ، وعلامته : اندراج حظ العبد في حق الرب تعالى ، بحيث يصير حظه هو نفس حق ربه عليه ، ولا يخفى على البصير الصادق علو هذه المنزلة ، وفضلها على منزلة الفناء ، وبالله التوفيق .

العلامة الثالثة صحة السلوك وهو سلامته من الآفات والعوائق والقواطع ، وهو إنما يصح بثلاثة أشياء :

أحدها : أن يكون على الدرب الأعظم ، الدرب النبوي المحمدي ، لا على الجواد الوضعية ، والرسوم الاصطلاحية ، وإن زخرفوا لها القول ودققوا لها الإشارة ، [ ص: 164 ] وحسنوا لها العبارة ، فتلك من بقايا النفوس عليهم وهم لا يشعرون .

الثاني : أن لا يجيب على الطريق داعي البطالة والوقوف والدعة .

الثالث : أن يكون في سلوكه ناظرا إلى المقصود . وقد تقدم بيان ذلك .

فبهذه الثلاثة يصح السلوك ، والعبارة الجامعة لها : أن يكون واحدا لواحد ، في طريق واحد ، فلا ينقسم طلبه ولا مطلوبه ، ولا يتلون مطلوبه .

وأما الثلاثة السلبية التي ذكرها . فأولها : قوله : ولم يوقف لهم على رسم .

يريد : أنهم انمحت رسومهم ، فلم يبق منها ما يقف عليه واقف .

وهذا كلام يحتاج إلى شرح ، فإن الرسم الظاهر المعاين لا يمحى ما دام في هذا العالم ، ولا يرون محو هذا الرسم وهم مختلفون فيما يعبر بالرسم عنه .

فطائفة قالت : الرسم ما سوى الحق سبحانه ، ومحوه هو ذهاب الوقوف معه والنظر إليه والرضا به والتعلق به .

ومنهم : من يريد بالرسم : الظواهر والعلامات .

وهذا أقرب إلى وضع اللغة ، فإن رسم الدار هو الأثر الباقي منها الذي يدل عليها ، ولهذا يسمون الفقهاء وأهل الأثر ونحوهم علماء الرسوم ؛ لأنهم عندهم لم يصلوا إلى الحقائق ، اشتغلوا عن معرفتها بالظواهر والأدلة .

فهذه الطائفة التي أشار إليها لا رسم لهم يقفون عنده ، بل اشتغلوا بالحقائق والمعاني عن الرسوم والظواهر .

وللملحد هاهنا مجال ؛ إذ عنده أن العبادات والأوامر والأوراد كلها رسوم ، وأن العباد وقفوا على الرسوم ، ووقفوا هم على الحقائق .

ولعمر الله إنها لرسوم إلهية أتت على أيدي رسله ، ورسم لهم أن لا يتعدوها ، ولا يقصروا عنها ، فالرسل قعدوا على هذه الرسوم يدعون الخلق إليها ، ويمنعونهم من تجاوزها ، ليصلوا إلى حقائقها ومقاصدها ، فعطل الملاحدة تلك الرسوم ، وقالوا إنما المراد الحقائق ، ففاتتهم الرسوم والحقائق معا . ووصلوا ؛ ولكن إلى الحقائق الإلحادية الكفرية وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون . وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون .

[ ص: 165 ] فأحسن ما حمل عليه قول الشيخ " ولم يقفوا مع رسم " : أنهم لم ينقطعوا بشيء سوى الله عنه ، فكل ما قطع عن الله لم يقفوا معه ، وما أوصلهم إلى الله لم يفارقوه ، وكان وقوفهم معه .

وقد يريد بقوله : " لم يوقف لهم على رسم " أنهم لعلو هممهم سبقوا الناس في السير ، فلم يقفوا معهم ، فهم المفردون السابقون ، فلسبقهم لم يوقف لهم على أثر في الطريق ، ولم يعلم المتأخر عنهم أين سلكوا ؟ والمشمر بعدهم : قد يرى آثار نيرانهم على بعد عظيم ، كما يرى الكوكب ، ويستخبر ممن رآهم : أين رآهم ؟ فحاله كما قيل :


أسائل عنكم كل غاد ورائح وأومي إلى أوطانكم وأسلم

العلامة الثانية : قوله " ولم ينسبوا إلى اسم " أي : لم يشتهروا باسم يعرفون به عند الناس من الأسماء التي صارت أعلاما لأهل الطريق .

وأيضا ، فإنهم لم يتقيدوا بعمل واحد يجري عليهم اسمه ، فيعرفون به دون غيره من الأعمال . فإن هذا آفة في العبودية . وهي عبودية مقيدة ، وأما العبودية المطلقة : فلا يعرف صاحبها باسم معين من معاني أسمائها ، فإنه مجيب لداعيها على اختلاف أنواعها ، فله مع كل أهل عبودية نصيب يضرب معهم بسهم ، فلا يتقيد برسم ولا إشارة ، ولا اسم ولا بزي ، ولا طريق وضعي اصطلاحي ، بل إن سئل عن شيخه ؟ قال : الرسول . وعن طريقه ؟ قال : الاتباع . وعن خرقته ؟ قال : لباس التقوى . وعن مذهبه ؟ قال : تحكيم السنة . وعن مقصوده ومطلبه ؟ قال : يريدون وجهه وعن رباطه وعن خانكاه ؟ قال : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة . وعن نسبه ؟ قال :


أبي الإسلام لا أب لي سواه     إذا افتخروا بقيس أو تميم

وعن مأكله ومشربه ؟ قال : " ما لك ولها ؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعى [ ص: 166 ] الشجر حتى تلقى ربها " .


واحسرتاه تقضى العمر وانصرمت     ساعاته بين ذل العجز والكسل
والقوم قد أخذوا درب النجاة وقد     ساروا إلى المطلب الأعلى على مهل

والعلامة الثالثة : قوله : " ولم يشر إليهم بالأصابع " يريد : أنهم لخفائهم عن الناس لم يعرفوا بينهم ، حتى يشيروا إليهم بالأصابع ، وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم : لكل عامل شرة ولكل شرة فترة . فإن صاحبها سدد وقارب فارجوا له . وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه شيئا . فسئل راوي الحديث عن معنى : " أشير إليه بالأصابع " فقال : هو المبتدع في دينه ، الفاجر في دنياه .

وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل ، فإن الناس إنما يشيرون بالأصابع إلى من يأتيهم بشيء ، فبعضهم يعرفه وبعضهم لا يعرفه ، فإذا مر : أشار من يعرفه إلى من لا يعرفه : هذا فلان ، وهذا قد يكون ذما له ، وقد يكون مدحا ، فمن كان معروفا باجتهاد وعبادة وزهد وانقطاع عن الخلق ، ثم انحط عن ذلك ، وعاد إلى حال أهل الدنيا والشهوات : فإذا مر بالناس أشاروا إليه ، وقالوا : هذا كان على طريق كذا وكذا ، ثم فتن وانقلب ، فهذا الذي قال في الحديث عنه : " فلا تعدوه شيئا " لأنه انقلب على عقبيه ، ورجع بعد الشرة إلى أسوأ فترة .

وقد يكون الرجل منهمكا في الدنيا ولذاتها ، ثم يوقظه الله لآخرته ، فيترك ما هو فيه ، ويقبل على شأنه . فإذا مر أشار الناس إليه بالأصابع ، وقالوا : هذا كان مفتونا . ثم تداركه الله . فهذا كانت شرته في المعاصي . ثم صارت في الطاعات . والأول : كانت شرته في الطاعات . ثم فترت وعادت إلى البدعة والفجور .

وبالجملة : فالإشارة بالأصابع إلى الرجل : علامة خير وشر ، ومورد هلاكه ونجاته ، والله سبحانه الموفق .

[ ص: 167 ] قوله " أولئك ذخائر الله حيث كانوا " ذخائر الملك : ما يخبأ عنده ، ويذخره لمهماته ، ولا يبذله لكل أحد ، وكذلك ذخيرة الرجل : ما يذخره لحوائجه ومهماته ، وهؤلاء لما كانوا مستورين عن الناس بأسبابهم ، غير مشار إليهم ولا متميزين برسم دون الناس ، ولا منتسبين إلى اسم طريق أو مذهب أو شيخ أو زي كانوا بمنزلة الذخائر المخبوءة ، وهؤلاء أبعد الخلق عن الآفات ، فإن الآفات كلها تحت الرسوم والتقيد بها ، ولزوم الطرق الاصطلاحية ، والأوضاع المتداولة الحادثة ؛ هذه هي التي قطعت أكثر الخلق عن الله ، وهم لا يشعرون . والعجب أن أهلها : هم المعروفون بالطلب والإرادة ، والسير إلى الله . وهم إلا الواحد بعد الواحد المقطوعون عن الله بتلك الرسوم والقيود .

وقد سئل بعض الأئمة عن السنة ؟ فقال : ما لا اسم له سوى السنة

يعني : أن أهل السنة ليس لهم اسم ينسبون إليه سواها .

فمن الناس : من يتقيد بلباس لا يلبس غيره ، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره ، أو مشية لا يمشي غيرها ، أو بزي وهيئة لا يخرج عنهما ، أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها ، وإن كانت أعلى منها ، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره ، وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه ، فهؤلاء كلهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الأعلى مصدودون عنه ، قد قيدتهم العوائد والرسوم والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة . فأضحوا عنهما بمعزل ، ومنزلتهم منها أبعد منزل ، فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة ، وتفريغ القلب ، ويعد العلم قاطعا له عن الطريق ، فإذا ذكر له الموالاة في الله والمعاداة فيه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عد ذلك فضولا وشرا ، وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم ، وعدوه غيرا عليهم ، فهؤلاء أبعد الناس عن الله ، وإن كانوا أكثر إشارة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية