الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويمكن إيراد الجواب على صورة ثالثة، وهو أن يقال: إما أن يقدر أن في الموجودات ما هو واجب بنفسه، وإما أن لا يكون، فإن كان فيها [ ص: 228 ] واجب بنفسه حصل المقصود، وإن لم يقدر أن فيها ما هو واجب بنفسه، لم يكن لها مجموع يكون جزء علة له، فبطل الاعتراض.

وإذا بطل الاعتراض كان الدليل المذكور على واجب الوجود مستلزما لمدلوله، وهو الموجود الواجب، فيلزم ثبوت واجب الوجود.

وأصل الغلط في هذا الاعتراض الذي يظهر به الفرق أن التقدير المستدل به قدر فيه أمور ليس فيها موجود بنفسه، بل كل منها مفتقر إلى غيره، واجتماعها أيضا مفتقر، فليس هناك إلا فقير محتاج، والتقدير المعترض به قدر أن موجودا واجبا بنفسه معه ممكنات موجودة به، ولكن المجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية يفتقر إلى بعض الجملة، وذلك البعض هو واجب بنفسه، فهنا في الجملة واحد واجب بنفسه هو علة لسائر الأجزاء وللمجموع الذي هو الهيئة الاجتماعية، وتلك ليس فيها واجب بنفسه، بل كل من الأجزاء والمجموع ممكن بنفسه، فكيف يجعل افتقار هذا إلى خارج عنه كافتقار ذاك إلى خارج عنه، والهندي لم يجب عنه. [ ص: 229 ]

فإن قيل: فقد قدرتم عدم وجوب الوجود، فكيف يكون موجودا بتقدير عدمه لما ذكرتم من الدليل؟

قلنا: لأن التقدير الممتنع قد يستلزم أمرا موجودا واجبا وجائزا، كما قد يستلزم أمرا ممتنعا؛ لأن التقدير هو شرط مستلزم للجزاء. والملزوم يلزم من تحققه تحقق اللازم، ولا يلزم من انتفائه انتفاء اللازم.

وهذا كما لو قيل: لو جاز أن يحدث اجتماع الضدين لافتقر إلى محدث، بل قد يكون اللازم ثابتا على تقدير النقيضين، كوجود الخالق مع كل واحد من مخلوقاته، فإنه موجود سواء كان موجودا أو لم يكن.

وحينئذ فيجوز أن يكون التقدير الممتنع -وهو تقدير عدم الواجب- يستلزم وجوده، كما يكون التقدير الممكن، فإذا قدر عدمه لزم بطلان الاعتراض المذكور، وذلك يستلزم سلامة الدليل عن المعارض، والدليل يستلزم وجوده.

وأيضا فإن تقدير عدمه تقدير ممتنع في نفس الأمر، والتقدير الممتنع قد يستلزم أمرا ممتنعا، فاستلزم تقدير عدمه الجمع بين النقيضين، وهو ثبوت وجوده مع ثبوت عدمه، وهذا ممتنع، فعلم أن تقدير عدمه ممتنع، وهو المطلوب. وعلم أنه لا بد من وجوده، وإن قدر في الأذهان عدم وجوده، فتقدير عدمه في الأذهان لا يناقض وجوده في الخارج، وقد ثبت وجوده فلا بد من وجوده على كل تقدير، وبهذا وغيره يظهر [ ص: 230 ] الجواب عن اعتراضه على سائر ما ذكروه من التقديرات في احتياج مجموع الممكنات إلى واجب خارج عنها.

ونحن نبين ذلك:

قوله: "لا يقال بأن مجموع تلك السلسة ممكن، وكل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه، وذلك المجموع مفتقر إلى علة خارجة عنه، لأنا نقول: لا نسلم أن كل ممكن فهو محتاج إلى علة خارجة عنه، فإن المجموع المركب من الواجب والممكن ممكن لافتقاره إلى الممكن، وليس محتاجا إلى علة خارجة عنه".

والجواب عن هذا أن يقال: قول القائل: كل ممكن فهو مفتقر إلى علة خارجة عنه قضية بديهية ضرورية بعد تصورها، فإن المعني بالممكن ما لا يوجد بنفسه، بل لا بد له من موجد مقتض، سواء سمي فاعلا، أو علة فاعلة، أو مؤثرا. وإذا كان كذلك فإذا كان المجموع ممكنا لا يوجد بنفسه لم يكن له بد من موجد يوجده، وقد علم أن المجموع لا يوجد بنفسه، إذ لو كان كذلك لكان واجبا بنفسه.

ومن المعلوم بالضرورة أن المجموع الذي هو الأفراد واجتماعها إذا لم يكن موجدا مقتضيا فبعض المجموع أولى أن لا يكون مقتضيا موجدا، [ ص: 231 ] فإنه من المعلوم ببدائه العقول أن المجموع إذا لم يجز أن يكون موجدا ولا مقتضيا ولا فاعلا ولا علة فاعلة، فبعضه أولى أن لا يكون كذلك، فإن المجموع يدخل فيه بعضه، فإذا كان بجميع أبعاضه لا يكفي في الاقتضاء والفعل والإيجاد، فكيف يكفي بعضه في ذلك؟

وهذا دليل مستقل في هذا المقام، وهو أن المجموع إذا لم يكن علة فاعلة، بل هو معلول مفتقر، فبعضه أولى أن لا يكون علة فاعلة، بل معلول مفتقر، فعلم أن مجموع الممكنات إذا كان مفتقرا إلى المؤثر، فكل من أبعاض المجموع أولى بالافتقار إلى المؤثر فتبين أن كل ممكن ومجموع الممكنات مفتقر إلى المؤثر، وهو المطلوب، ولله الحمد والمنة.

التالي السابق


الخدمات العلمية