الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا .

استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا فإنه بعد نذارة المشركين وجه الإنذار لأهل الكتاب ، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة ، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما ، وفيه مناسبة للأمر بترك الخمر في أوقات الصلوات والأمر بالطهارة ، لأن ذلك من الهدى الذي لم يسبق لليهود نظيره ، فهم يحسدون المسلمين عليه ، لأنهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم ، وأرادوا إضلال المسلمين عداء منهم .

وجملة ( ألم تر ) إلى ( الكتاب ) جملة يقصد منها التعجيب ، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يود المخاطب انتفاءه عنه ، ليكون ذلك محرضا على الإقرار بأنه فعل ، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب ، وتقدم نظيرها في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم في سورة آل عمران .

وجملة ( يشترون ) حالية فهي قيد لجملة " ألم تر " وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزلت منزلة المشاهد المرئي ، لأن شهرة الشيء وتحققه تجعله بمنزلة المرئي .

والنصيب تقدم عند قوله : للرجال نصيب في هذه السورة ، وفي اختياره هنا إلقاء احتمال قلته في نفوس السامعين ، وإلا لقيل : أوتوا الكتاب ، وهذا نظير قوله تعالى بعد [ ص: 72 ] هذا فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ، أي نصيب من الفتح أو من النصر .

والمراد بالكتاب التوراة ، لأن اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة ، ولم يكن فيها أحد من النصارى .

والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء ، لأن المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبائعين ، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه ، هكذا اعتبر أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلا فإن كلا المتبايعين مشتر وشار ، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازا على الاختيار ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى في سورة البقرة . وهذا يدل على أنهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلة جدوى علمهم عليهم .

وقوله : ويريدون أن تضلوا السبيل أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء ، كقوله : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق . فالإرادة هنا بمعنى المحبة كقوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم . ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل ، أي يسعون لأن تضلوا ، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان ، وقد تقدم آنفا قوله تعالى : ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما .

وجملة والله أعلم بأعدائكم معترضة ، وهي تعريض ، فإن إرادتهم الضلالة للمؤمنين عن عداوة وحسد .

وجملة وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا تذييل لتطمئن نفوس المؤمنين بنصر الله ، لأن الإخبار عن اليهود بأنهم يريدون ضلال المسلمين ، وأنهم أعداء للمسلمين ، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين ، إذ كان اليهود المجاورون للمسلمين ذوي عدد وعدد ، وبيدهم الأموال ، وهم مبثوثون في المدينة وما حولها : من قينقاع [ ص: 73 ] وقريظة والنضير وخيبر ، فعداوتهم ، وسوء نواياهم ، ليسا بالأمر الذي يستهان به ، فكان قوله : وكفى بالله وليا مناسبا لقوله : ويريدون أن تضلوا السبيل ، أي إذا كانوا مضمرين لكم السوء فالله وليكم يهديكم ويتولى أموركم ؛ شأن الولي مع مولاه ، وكان قوله : وكفى بالله نصيرا مناسبا لقوله ( بأعدائكم ) أي فالله ينصركم .

وفعل ( كفى ) في قوله : وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا مستعمل في تقوية اتصاف فاعله بوصف يدل عليه التمييز المذكور بعده ، أي أن فاعل ( كفى ) أجدر من يتصف بذلك الوصف ، ولأجل الدلالة على هذا غلب في الكلام إدخال باء على فاعل فعل ( كفى ) وهي باء زائدة لتوكيد الكفاية ، بحيث يحصل إبهام يشوق السامع إلى معرفة تفصيله ، فيأتون باسم يميز نوع تلك النسبة ليتمكن المعنى في ذهن السامع .

وقد يجيء فاعل ( كفى ) غير مجرور بالباء ، كقول عبد بني الحسحاس :


كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

وجعل الزجاج الباء هنا غير زائدة وقال : ضمن فعل ( كفى ) معنى ( اكتف ) ، واستحسنه ابن هشام .

وشذت زيادة الباء في المفعول ، كقول كعب بن مالك أو حسان بن ثابت :


فكفى بنا فضلا على من غيرنا     حب النبيء محمد إيانا

وجزم الواحدي في شرح قول المتنبي :


كفى بجسمي نحولا أنني رجل     لولا مخاطبتي إياك لم ترني

بأنه شذوذ .

لا تزاد الباء في فاعل " كفى " بمعنى أجزأ ، ولا التي بمعنى وقى ، فرقا بين استعمال كفى المجازي واستعمالها الحقيقي الذي هو معنى الاكتفاء بذات الشيء نحو :

كفاني ولم أطلب قليل من المال .

التالي السابق


الخدمات العلمية