الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            [ ص: 54 ] ( فصل ) في الوصية لغير الوارث وحكم التبرعات في المرض ( ينبغي ) لمن ورثته فقراء أو أغنياء ( أن لا يوصي بأكثر من ثلث ماله ) بل الأحسن أن ينقص منه شيئا ; لأنه صلى الله عليه وسلم استكثره فقال { الثلث والثلث كثير } ومن ثم صرح جمع بكراهة الزيادة عليه وجمع بحرمتها .

                                                                                                                            قال الأذرعي : ويتعين الجزم بها عند قصد حرمان الوارث انتهى .

                                                                                                                            والمعتمد خلافه كما علم مما مر نظيره في الوقف ( فإن زاد ) على الثلث ( ورد الوارث ) الخاص المطلق التصرف الزيادة ( بطلت ) الوصية ( في الزائد ) إجماعا ; لأنه حقه ، فإن كان عاما بطلت ابتداء من غير رد ; لأن الحق للمسلمين فلا مجيز ( وإن أجاز ) وهو مطلق التصرف وإلا لم تصح إجازته بل توقف إلى تأهله كما مر ، لكن يظهر أن محله عند رجاء زواله وإلا كجنون مستحكم أيس من برئه فتبطل حيث غلب على الظن ذلك بأن شهد به خبيران وإلا فلا ; لأن تصرف الموصي وقع صحيحا فلا يبطله إلا مانع قوي ، وعلى كل فمتى برأ وأجاز بان نفوذها ( فإجازته تنفيذ ) أي إمضاء لتصرف الموصي بالزيادة على الثلث لصحته كما مر ، وحق الوارث إنما يثبت في ثاني حال فأشبه عفو الشفيع ( وفي قوله عطية مبتدأة والوصية ) على الثاني ( بالزيادة لغو ) { لنهيه صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص عن الوصية بالنصف وبالثلثين } رواه الشيخان . [ ص: 55 ] وجوابه أن النهي إنما يقتضي الفساد إن رجع لذات الشيء أو لازمه ، وهنا ليس كذلك ; لأنه لخارج عنه وهو رعاية المواريث وإن توقف الأمر على إجازته ، وعلى الأول لا يحتاج للفظ هبة وتجديد قبول وقبض ولا رجوع للمجيز قبل القبض وينفذ من المفلس وعليهما لا بد من معرفته لقدر ما يجيزه من التركة إن كانت بمشاع لا معين ، ومن ثم لو أجاز ثم قال ظننت قلة المال أو كثرته ولم أعلم كميته وهي بمشاع حلف أنه لا يعلم ونفذت فيما ظنه فقط أو بمعين لم يقبل

                                                                                                                            ( ويعتبر المال ) حتى يعلم قدر الثلث منه ( يوم الموت ) ; لأن الوصية تملك بعده وبه تلزم من جهة الموصي ، وقضية ذلك أنه لو قتل فوجبت ديته ضمت لماله حتى لو أوصى بثلثه أخذ ثلثها ( وقيل يوم الوصية ) فلا عبرة بما حدث بعدها كما لو نذر التصدق بثلث ماله حيث اعتبر يوم النذر ورد بأنه وقت اللزوم فهو نظير يوم الموت هنا ، ومر أن الثلث إنما يعتبر لها بعد الدين وأنها معه ولو مستغرقا صحيحة حتى لو أبرأ مستحقه نفذت ولم يبين الاعتبار في قيمة ما يفوت على الورثة وما يبقى لهم ، وحاصله أن الاعتبار في المنجز وقت التفويت ثم إن وفى بجميعها ثلثه عند الموت فذاك وإلا ففيما يفي به ، وفي المضاف للموت بوقته وفيما بقي لهم بأقل قيمة من الموت إلى القبض ; لأن الزيادة على يوم الموت في ملكهم والنقص عن يوم القبض لم يدخل في يدهم فلا يحسب عليهم ( ويعتبر من الثلث أيضا ) راجع ليعتبر والثلث لتقدم لفظهما أما الأول فظاهر ، وأما الثاني ; فلأن هذا عطف على ينبغي المعلق بالثلث كما أن هذا متعلق به ( عتق علق بالموت ) في الصحة والمرض . نعم لو قال صحيح لقنه أنت حر قبل مرض موتي بيوم ثم مات من مرض بعد التعليق بأكثر من يوم أو قبل موتي بشهر ثم مرض دونه ومات بعد أكثر من شهر عتق من رأس المال ; لأن عتقه وقع في الصحة ، وكذا لو مات بعد أن مرض شهرا فأكثر اعتبر من [ ص: 56 ] رأس المال كما لو علقه بصفة في الصحة فوجدت في مرضه من غير اختياره ، ولو أوصى بعتق عن كفارته المخيرة اعتبر جميع قيمة العبد من الثلث لحصول البراءة بدونه حتى لو لم يف الثلث بتمام قيمته ولم تجز الورثة لم تصح الوصية ويعدل إلى الإطعام أو الكسوة

                                                                                                                            ( وتبرع نجز في مرضه ) أي الموت ( كوقف ) وعارية عين سنة مثلا وتأجيل ثمن مبيع كذلك فيعتبر منه أجرة الأولى وثمن الثانية وإن باعها بأضعاف ثمن مثلها ; لأن تفويت يدهم كتفويت ملكهم ( وهبة وعتق ) في غير مستولدة إذ هو لها فيه من رأس المال ( وإبراء ) وهبة في صحة وإقباض في مرض حيث اتفق المتهب والوارث وإلا حلف المتهب ; لأن العين في يده ، وقضيته أنه لو كانت بيد الوارث وادعى أنه ردها إليه أو إلى مورثه وديعة أو عارية صدق الوارث ، أو بيد المتهب وقال الوارث أخذتها غصبا أو نحو وديعة صدق المتهب وهو محتمل ، ولو قيل بمجيء ما مر من تنازع الراهن والواهب مع المرتهن والمتهب في القبض من التفصيل لم يبعد ، ولو ادعى الوارث موته من مرض تبرعه والمتبرع عليه شفاءه وموته من مرض آخر أو فجأة فإن كان مخوفا صدق الوارث وإلا فالآخر : أي ; لأن غير المخوف بمنزلة الصحة ، وهما لو اختلفا في صدور التصرف فيها أو في المرض عنها صدق المتبرع عليه ; لأن الأصل دوام الصحة ، فإن أقاما بينتين قدمت بينة المرض لكونها ناقلة ، ولو ملك في مرض موته من يعتق عليه فعتقه من الأصل وإن اشتراه بثمن مثله صح ، ثم إن كان مديونا بيع للدين وإلا فعتقه من الثلث أو بدون ثمن المثل فقدر المحاباة هبة يعتق من الأصل ولا يتعلق به الدين ، وإذا عتق من الثلث لم يرث أو من الأصل ورث

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            [ ص: 54 ] فصل ) في الوصية لغير الوارث

                                                                                                                            ( قوله : لغير الوارث ) ومنها التبرعات المعلقة بالموت فلا تزاد في الترجمة وإنما يزاد فيها وما يتصل كما لو أوصى بحاضر هو ثلث ماله ( قوله ينبغي لمن ورثته إلخ ) معتمد ( قوله : بل الأحسن أن ينقص منه شيئا ) أي ; لأن الوصية بالثلث خلاف الأولى ( قوله : الثلث والثلث كثير ) قال النووي في شرح مسلم : وقع في بعض الروايات بالثاء المثلثة ، وفي بعض الروايات بالباء الموحدة وكلاهما صحيح ، ثم قال : ويجوز نصب الثلث ورفعه ، فأما نصبه فعلى الإغراء أو بتقدير فعل : أي أعط الثلث ، وأما رفعه فعلى أنه فاعل : أي يكفيك الثلث ، أو على أنه مبتدأ خبره محذوف أو خبر محذوف المبتدإ انتهى .

                                                                                                                            أي الثلث كافيك أو كافيك الثلث تمامه كما في البخاري { إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس } قال الكرماني : وأن تذر بفتح الهمزة ، والعالة جمع العائل وهو الفقير ، ويتكففون : أي يمدون إلى الناس أكفهم للسؤال انتهى .

                                                                                                                            وقال الزركشي : أن تذر بمعنى لأن تذر انتهى ( قوله : ومن ثم صرح جمع إلخ ) معتمد ، وقوله بكراهة الزيادة : أي وقت الوصية فيما يظهر إذ لا نعلم حال المال وقت الموت ( قوله فإن كان عاما بطلت ) أي في الزائد ( قوله : وإن أجاز ) أي بنحو أجزت الوصية أو أمضيتها أو رضيت بما فعله الموصي ( قوله : لكن يظهر أن محله ) أي الوقف ( قوله : فتبطل ) أي ظاهرا لما يأتي من أنه لو أفاق وأجاز نفذت إجازته ( قوله وعلى كل ) أي سواء أيس من برئه أم لا ( قوله في ثاني حاله ) وهو بعد الإجازة لا وقت الموت ( قوله : عفو الشفيع ) أي من حيث كونه بعد البيع لا قبله ( قوله : والوصية ) [ ص: 55 ] من جملة هذا القول ( قوله : وعلى الأول ) أي التنفيذ ( قوله ولا رجوع للمجيز ) أي صحيح وقوله وينفذ من المفلس أي التنفيذ ( قوله : ونفذت فيما ظنه ) أي وإن قل وظاهره وإن دلت القرينة على كذبه ( قوله : أو بمعين لم يقبل ) أي لم يؤثر ; لأن الجهل به لا يضر في صحة الإجازة ولو عبر به لكان أولى ، ولعل الفرق بين المعين والشائع أن المعين يغلب الاطلاع عليه فيبعد عدم معرفته به قبل إجازته ، بخلاف جملة التركة فإنها قد تخفى على الوارث حتى يظن قلة التركة ( قوله : فوجبت ديته ) أي بنفس القتل بأن كان خطأ أو شبه عمد ، أما لو كان عمدا يوجب القصاص فعفا عنه على مال بعد موته لم يضم إلى التركة ; لأنه لم يكن ماله وقت الموت ( قوله : أخذ ) أي الموصى له وقوله ثلثها أي الدية ( قوله : ورد بأنه ) أي يوم النذر ( قوله : ومر ) أي أول كتاب الفرائض .

                                                                                                                            وقوله إنما يعتبر لها : أي الوصية ، وقوله وأنها معه : أي الدين ، وقوله ولم يبين : أي المصنف ( قوله : ما يفوت على الورثة ) أي فيما لو كان الموصى به متقوما كعبد مثلا أو مثليا ( قوله : وقت التفويت ) أي وهو وقت التصرف فينفذ في ثلث الموجود ويرد فيما زاد عليه ظاهرا ، ثم إن تغير الحال عمل بما صار إليه كما يفيده قوله ثم إن وفى إلخ ( قوله عتق من رأس المال ) [ ص: 56 ] أي في الصورتين ( قوله من غير اختياره ) أي السيد ( قوله : اعتبر جميع قيمة العبد ) هلا قيل يعتبر من الثلث ما زاد على أقل خصال الكفارة لوجوبه عليه ، ثم رأيت في حج أن هذا ما قال الشيخان لا أنه الأصح ، وعبارته : ولو أوصى بعتق عن كفارته المخيرة اعتبرت : أي القيمة على ما قالا إنه الأقيس عند الأئمة بعد ما قالا عن مقابله إنه الأصح الزيادة عن الأقل من الإطعام والكسوة ( قوله : لحصول البراءة بدونه ) أي العبد كالإطعام ( قوله كذلك ) أي سنة ، وقوله فيعتبر منه : أي الثلث ، وقوله أجرة الأولى هي قوله وعارية ، وقوله وثمن الثانية هي قوله ثمن مبيع ( قوله : ; لأن تفويت يدهم ) قد يقال قضية هذه العلة اعتبار قيمة العين المعارة دون أجرتها لفوات يدهم عنها مدة الإعارة ، إلا أن يقال : لما كان أصل العارية عدم اللزوم فكأنها لم تخرج عن يدهم ، على أن العين لم تخرج عن يدهم في الحقيقة بدليل أن لهم بيعها مسلوبة المنفعة تلك السنة ، واعتبار قيمة المبيع من الثلث دون ما زاد عليها من الثمن ; لأنه لو فوت ملكه فيها بأن أوصى بها نفسها اعتبرت قيمتها لا غير ( قوله : حيث اتفق المتهب ) أي على أن القبض وقع في المرض ، وقوله وإلا حلف المتهب : أي أن القبض وقع في الصحة فيكون من رأس المال ( قوله : وادعى ) أي الموصى له ، وقوله وهو محتمل معتمد ( قوله ولو ملك في مرض موته ) أي بلا عوض أخذا من قوله وإن اشتراه بثمن مثله إلخ ( قوله فعتقه من الأصل ) أي رأس المال وظاهره وإن كان عليه دين ( قوله : وإذا عتق ) أي من يعتق عليه ( قوله : لم يرث ) أي ; لأنه لو ورث لتوقف نفوذ عتقه على الإجازة ، وهي غير صحيحة منه لامتناع إجازته في حق نفسه فيؤدي إرثه إلى عدم إرثه ، وقوله أو من الأصل ورث : أي لعدم توقف إرثه حينئذ على إجازة



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 53 - 54 ] فصل ) في الوصية لغير الوارث

                                                                                                                            ( قوله : بل توقف ) يعني الوصية ( قوله : عند رجاء زواله ) يعني المانع المفهوم من وإلا ( قوله : بأن نفوذها ) قال الشهاب سم : وحينئذ لو تصرف فيما زاد على الثلث قبل الإجازة فهل يتبين بطلان التصرف أو صحته على [ ص: 55 ] قياس ما يأتي فيما لو أوصى بعين حاضرة إلخ . ا هـ . ( قوله : بأنه لخارج عنه ) نازع فيه الشهاب سم بأن خروجه لا ينافي لزومه ، ثم قال : ولعل الوجه أن يقال النهي عن الزيادة لأمر لازم للوصية وهو التفويت على الوارث لكنه لازم أعم لحصول التفويت بغير الوصية ( قوله : ; لأن الزيادة على يوم الموت إلخ ) عبارة شرح الروض : ; لأنه إن كان يوم الموت أقل فالزيادة حصلت في ملك الوارث ، أو يوم القبض أقل فما نقص قبله لم يدخل في يده فلا يحسب عليه ( قوله : راجع ليعتبر والثلث إلخ ) قال في التحفة عقب هذه السوادة ما نصه .

                                                                                                                            وبهذا مع ما يأتي التصريح به في أن محل المعلق بالموت الثلث يندفع ما قيل لم يبين حكم المعلق بالموت من غير العتق الذي هو الأصل وإنما بين حكم [ ص: 56 ] الملحق به وهو المنجز . ا هـ .

                                                                                                                            وقوله مع ما يأتي قال الشهاب سم كأنه يريد قوله وإذا اجتمع تبرعات إلى آخره ( قوله ولو ملك في مرض موته ) أي بلا عوض




                                                                                                                            الخدمات العلمية