الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( واختلف أصحابنا في بيع الباقلاء في قشره فقال أبو سعيد الإصطخري : يجوز لأنه يباع في جميع البلدان من غير إنكار ( ومنهم ) من قال : لا يجوز وهو المنصوص في الأم ، لأن الحب قد يكون صغارا ، وقد يكون كبارا وقد يكون في بيوته ما لا شيء فيه ، وقد يكون فيه حب متغير ، وذلك غرر من غير حاجة ، فلم يجز . واختلفوا أيضا في بيع نافجة المسك فقال أبو العباس : يجوز بيعها ، لأن النافجة فيها صلاح للمسك ، لأن بقاءه فيها أكثر ، فجاز بيعه فيها ، كالجوز في القشر الأسفل ، ومن أصحابنا من قال ، لا يجوز ، وهو ظاهر النص ، لأنه مجهول القدر ، مجهول الصفة ، وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز واختلفوا في بيع الطلع في قشره ، فقال أبو إسحاق : لا يجوز بيعه ، لأن المقصود مستور بما لا يدخر فيه ، فلم يصح بيعه كالثمر في الجراب وقال أبو علي بن أبي هريرة : يجوز لأنه مستور بما يؤكل معه من القشر ، فجاز بيعه فيه كالقثاء والخيار .

                                      واختلف قوله في بيع الحنطة في سنبلها ( فقال ) في القديم : يجوز ، لما روى أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد } ( وقال ) في الجديد : لا يجوز لأنه لا يعلم قدر ما فيها من الحب ولا صفة الحب ، وذلك غرر لا تدعو الحاجة إليه فلم يجز )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أنس رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وآخرون بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن ، وفي الباقلا لغتان سبقتا في أول كتاب الطهارة التخفيف مع المد ، والتشديد مع القصر ( وقوله : ) غرر من غير حاجة ، احتراز من أساس الدار ومن السلم ، ونافجة المسك - بالنون والفاء والجيم - وهي ظرفه الذي يكون فيه من [ ص: 370 ] أصله ، والجراب - بكسر الجيم وفتحها - الكسر أفصح والقثاء - بكسر القاف وضمها - الكسر أفصح ، وهو ممدود .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسائل : ( إحداها ) يجوز بيع الباقلا في القشر الأسفل بلا خلاف ، وسواء كان أخضر أو يابسا وأما بيعه في قشرة الأعلى والأسفل - فإن كان يابسا - لم يجز على قولنا بمنع بيع الغائب فإن جوزناه جاز ، وهكذا صرح به إمام الحرمين والبغوي والجمهور . وحكى المتولي وجها أنه يصح إن منعنا بيع الغائب ، وهذا شاذ ضعيف ، لأنه مستور بما لا يحتاج إلى بقائه فيه ، ولا حاجة إلى شرائه كذلك . وإن كان رطبا ففيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) وهو قول الإصطخري يجوز ، وادعى إمام الحرمين والغزالي أن الأصح صحته ، لأن الشافعي رضي الله عنه أمر أن يشترى له الباقلا الرطب ( والثاني ) لا يجوز ، وهو المنصوص في الأم كما ذكره المصنف والأصحاب وهذا هو الأصح عند البغوي وآخرين وقطع به المصنف في التنبيه .

                                      ( الثانية ) في بيع طلع النخل مع قشره وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) جوازه وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ( الثالثة ) المسك طاهر ، ويجوز بيعه بلا خلاف ، وهو إجماع المسلمين ، نقل جماعة فيه الإجماع ، ونقل صاحب الشامل وآخرون عن بعض الناس أنه نجس لا يجوز بيعه ، قال الماوردي : هو قول الشيعة ، قالوا : لأنه دم ولأنه منفصل من حيوان حي ، وما أبين من حي فهو ميت ، وهذا المذهب خلط صريح وجهالة فاحشة ، ولولا خوف الاغترار به لما تجاسرت على حكايته ، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة عن عائشة [ ص: 371 ] وغيرها من الصحابة أنهم رأوا وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وانعقد إجماع المسلمين على طهارته وجواز بيعه ( وأما ) قوله : إنه دم فلا يسلم ولو سلم لم يلزم منه نجاسته فإنه دم غير مسفوح كالكبد والطحال .

                                      ( وأما ) قوله : منفصل من حيوان حي فأجاب الأصحاب عنه بجوابين ( أحدهما ) أن الظبية تلقيه كما تلقي الولد ، وكما يلقي الطائر البيضة ، فيكون طاهرا كولد الحيوان المأكول وبيضه ، ولأنه لو كان من حيوان لا يؤكل لم يلزم من ذلك نجاسته ، فإن العسل من حيوان لا يؤكل وهو طاهر حلال بلا شك ( والجواب الثاني ) أن هذا قياس منابذ للسنة ، فلا يلتفت إليه والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      ( وأما ) بيع المسك في فأرته ، وهي نافجته ففيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) يجوز مطلقا ، قاله ابن سريج لما ذكره المصنف ( والثاني ) إن كانت مفتوحة وشاهد المسك فيها ولم يتفاوت ثمنها صح البيع وإلا فلا ، وبه قطع المتولي وصاحب البيان ( والثالث ) وهو الصحيح لا يصح بيعه فيها مطلقا ، سواء بيع معها أو دونها ، مفتوحة وغير مفتوحة ، كما لا يصح بيع اللحم في الجلد ، وهذا هو المنصوص ، ولو رأى المسك خارج الفأرة ثم رده إليه وباعه فيها وهي مفتوحة الرأس صح البيع قطعا ، وإن كانت غير مفتوحة فقد قالوا : فيه القولان في بيع الغائب ، وهذا محمول على أنه مضى عليه زمن يتغير فيه غالبا ، وإلا فيصح قولا واحدا لأنه قد رآه ، قال أصحابنا : ولو باع المسك المخلوط بغيره لم يصح قولا واحدا ، لأن المقصود مجهول كما لا يصح بيع اللبن المخلوط بالماء ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      [ ص: 372 ] فرع ) قال الماوردي : وأما الزباد فهو لبن سنور ، يكون في البحر ، قال : ولأصحابنا في جواز بيعه وجهان ، إذا قلنا بنجاسة ما لا يؤكل لحمه ( أحدهما ) نجس ، لا يجوز بيعه ( والثاني ) طاهر ويجوز بيعه كالمسك ، هذا كلام الماوردي ، والصواب طهارته وصحة بيعه ، لأن الصحيح حل لحم كل حيوان البحر ، وحل لبنه كما سبق في بابه ، وقد سبقت هذه المسألة في باب إزالة النجاسة .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لا يجوز بيع اللبن والخل ونحوهما إذا كان مخلوطا بالماء ، لأن المقصود مجهول .



                                      ( فرع ) اتفق أصحابنا على أنه لو باع المسك المختلط بغيره لم يصح ، لأن المقصود مجهول ، كما لا يصح بيع اللبن المختلط بالماء ، والمراد إذا خالط المسك غيره لا على وجه التركيب - فإن كان معجونا مع غيره كالغالية والند - جاز بيعه ، ولم يجز السلم فيه .



                                      ( فرع ) اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز بيع تراب المعدن قبل تصفيته . وتمييز الذهب والفضة منه ، وكذا تراب الصاغة ، سواء باعه بذهب أم بفضة أم بغيرهما ، هذا مذهبنا ، وقال الحسن والنخعي وربيعة والليث : يجوز بيع تراب الفضة بالذهب ، وبيع تراب الذهب بالفضة وقال مالك : يجوز بيع تراب المعدن بما يخالفه بالوزن إن كان ذهبا ووافقنا أنه لا يجوز بيع تراب الصاغة بحال ، دليلنا أن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه في العادة ، فلم يصح بيعه فيه كبيع اللحم في الجلد بعد الذبح ، وقبل السلخ .

                                      ( المسألة الرابعة ) قال أصحابنا : يشترط ظهور المقصود في بيع الثمرة والزرع ونحو ذلك ، فإذا باع ثمرة لا كمام لها كالتين والعنب والكمثرى والمشمش والخوخ والإجاص ونحو ذلك صح البيع بالإجماع ، سواء باعها [ ص: 373 ] على الأرض أو على الشجر ، لكن يشترط في بيعها على الشجر كونه بعد بدو الصلاح ، أو يشترط القطع ، قال أصحابنا : ولو باع الشعير أو الذرة أو السلت مع سنبله جاز قبل الحصاد وبعده بلا خلاف ، لأن حابته ظاهرة ولو كان للثمر والحب كمام لا يزال إلا عند الأكل كالرمان ونحوه والعلس ، جاز بيعه في كمامه أيضا بلا خلاف ( وأما ) ماله كمامان يزال أحدهما ويبقى الآخر إلى وقت الأكل كالجوز واللوز والرانج فيجوز بيعه في القشر الأسفل بلا خلاف ، ولا يجوز في القشر الأعلى ، لا على الأرض ، ولا على الشجر ، لا رطبا ولا يابسا ، وفي قول ضعيف حكاه الخراسانيون يجوز ما دام رطبا والمذهب البطلان مطلقا .

                                      ( أما ) ما لا يرى حبه في سنبله كالحنطة والعدس والحمص والسمسم والحبة السوداء فما دام في سنبله لا يجوز بيعه منفردا عن سنبله بلا خلاف ، كما لا يجوز بيع تراب الصاغة والمعدن ، قال أصحابنا : ولو باع الحنطة لم يصح بلا خلاف لما ذكرناه ( أما ) إذا باع هذا النوع مع سنبله فقولان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليلهما ( الأصح ) الجديد : لا يصح بيعه ( والقديم ) صحته وفي الأرز طريقان ( المذهب ) صحة بيعه في سنبله كالشعير ، ولأنه يدخر في قشره فأشبه العلس وبهذا الطريق قال ابن القاص وأبو علي الطبري والأكثرون ، وصححه القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل والرافعي ( والثاني ) فيه القولان كالحنطة ، قاله الشيخ أبو حامد والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) لا يجوز بيع الجزر والثوم والبصل والفجل والسلق في الأرض لأن المقصود مستور ، ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القطع ، ويجوز بيع القنبيط في الأرض لظهوره ، وكذا نوع من الشلجم يكون ظاهرا ، وهو بالشين المعجمة والجيم - والقنبيط بضم القاف وفتح النون المشددة - كذا هو في صحاح الجوهري وغيره ، وقد سبقت هذه المسألة قريبا .



                                      [ ص: 374 ] فرع ) قال أصحابنا : يجوز بيع اللوز في الأعلى قبل انعقاد الأسفل ، لأنه مأكول كله كالتفاح .

                                      ( فرع ) حيث قلنا ببطلان البيع في هذه الصورة السابقة فهل هو تفريع على بطلان بيع الغائب ؟ فيه طريقان سبقا عن حكاية الماوردي ( أحدهما ) وبه قطع إمام الحرمين هو مفرع عليه ، فإن جوزنا بيع الغائب صح البيع في كل هذه الصور ( والطريق الثاني ) وبه قطع البغوي في بيع الجزر ونحوه ليس هو مفرعا عليه ، بل هو باطل على القولين ، لأن في بيع الغائب يمكن رد المبيع بعد العقد بصفته ، وهنا لا يمكن ، وهذا الطريق هو الأصح ، وقد سبق عن الماوردي أنه نقله عن جمهور أصحابنا ، وسبق إيضاح الفرق .

                                      ( فرع ) إذا قلنا بالبطلان في هذه الصور فباع الجوز مثلا في قشره الأعلى مع الشجر ، أو باع الحنطة في سنبلها مع الأرض فطريقان ( أحدهما ) يبطل البيع في الجوز والحنطة ، وفي بطلانه في الشجر والأرض قولا تفريق الصفقة ( وأصحهما ) القطع بالبطلان في الجميع ، للجهل بأحد المقصودين ، وتعذر التوزيع ، ولو باع أرضا مبذورة مع البذر فوجهان مشهوران ، وقد ذكرهما المصنف في باب بيع الأصول والثمار ( أحدهما ) يصح في الأرض وفي البذر تبعا لها ( والثاني ) وهو الصحيح باتفاق الأصحاب بطلان البيع في البذر ، ثم في الأرض الطريقان ، قال الرافعي : ومن قال بالصحة لا يقول بالتوزيع ، بل يوجب جميع الثمن بناء على قولنا بالضعيف في تفريق الصفقة أنه يأخذ بجميع الثمن ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( فرع ) ثبتت الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن المحاقلة } قال العلماء : المحاقلة بيع الحنطة في سنبلها بكيل معلوم من الحنطة ، واتفق العلماء على بطلانها ، وله علتان مع الحديث ( إحداهما ) [ ص: 375 ] أنه بيع حنطة وتبن بحنطة ، وذلك ربا ( والثانية ) أنه بيع حنطة في سنبلها فلو باع شعيرا في سنبله بحنطة خالصة صافية وتقابضا في المجلس جاز بلا خلاف ، ولو باع زرعا قبل ظهور حبه بحب من جنسه صح البيع بلا خلاف ، لأن الحشيش ليس ربويا .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع الحنطة في سنبلها ، ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا بطلانه ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : يصح ، دليلنا ما ذكره المصنف



                                      ( فرع ) في مذاهبهم في بيع الجزر والبصل والثوم والشلجم والفجل وهو غائب في منبته ، قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور بطلان بيعه ، وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وأحمد ، قال : وأجازه مالك والأوزاعي وإسحاق ، قال ابن المنذر : وببطلانه أقول ، لأنه غرر .




                                      الخدمات العلمية