الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز بيع مجهول القدر ، فإن قال : بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح البيع لحديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الغرر } وفي بيع البعض غرر ، لأنه يقع على القليل والكثير ، ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بقدر المبيع كالسلم ، وإن قال : بعتك هذه الصبرة ، جاز وإن لم يعرف قفزانها ، وإن قال : بعتك هذه الدار أو هذا الثوب جاز ، وإن لم يعرف ذرعانهما لأن غرر الجهالة ينتفي عنهما بالمشاهدة قال الشافعي : وأكره بيع الصبرة جزافا لأنه يجهل قدرها على الحقيقة ، وإن قال : بعتك ثلثها أو ربعها ، أو بعتكها إلا ثلثها أو ربعها جاز ، لأن من عرف الشيء عرف ثلثه أو ربعه ، وما يبقى بعدهما ، وإن قال : بعتك هذه الصبرة إلا قفيزا منها أو هذه الدار ، أو هذا الثوب إلا ذراعا منه - نظرت - فإن علما مبلغ قفزان الصبرة وذرعان الدار والثوب - جاز ، لأن المبيع معلوم ، وإن لم يعلما ذلك لم يجز ، لما روى جابر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثنيا } ولأن المبيع هو الباقي بعد القفيز والذراع ، وذلك مجهول . [ ص: 376 ] وإن قال : بعتك عشرة أقفزة من هذه الصبرة جاز ، لأنها معلومة القدر والصفة ، فإن اختلفا فقال البائع : أعطيك من أسفلها ، وقال المشتري : من أعلاها فالخيار إلى البائع فمن أي موضع أعطاه جاز لأنه أعطاه من الصبرة ، وإن قال : بعتك عشرة أذرع من هذه الدار ، أو عشرة أذرع من هذا الثوب ، فإن كانا يعلمان مبلغ ذرعان الدار والثوب ، وأنها مائة ذراع صح البيع في عشرها لأن العشرة من المائة عشرها ، فلا فرق بين أن يقول بعتك عشرها ، وبين أن يقول بعتك عشرة من مائة ذراع منها ، وإن لم يعلما مبلغ ذرعان الدار والثوب لم يصح ، لأنه إن جعل البيع في عشرة أذرع مشاعة لم يعرف قدر المبيع أنه عشرها أو ثلثها أو سدسها .

                                      وإن جعل البيع في عشرة أذرع من موضع بعينه لم يعرف صفة المبيع ، فإن أجزاء الثوب والدار تختلف ، وقد يكون بعضها أجود من بعض ، وإن قال : بعتك عشرة أذرع ابتداؤها من هذا المكان ، ولم يبين المنتهى ، ففيه وجهان ( أحدهما ) لا يصح ، لأن أجزاء المبيع مختلفة ، وقد ينتهي إلى موضع يخالف موضع الابتداء ( والثاني ) أنه يصح لأنه يشاهد السمت ، وإن بين الابتداء والانتهاء صح في الدار ( وأما ) في الثوب فإنه إن كان مما لا ينقص قيمته بالقطع فهو كالدار ، وإن كان مما ينقص لم يصح لأنه شرط إدخال نقص عليه فيما لم يبع من الثوب ، ومن أصحابنا من قال : يصح لأنه رضي بما يدخل عليه من الضرر )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النهي عن بيع الغرر صحيح رواه مسلم وسبق بيانه .

                                      وحديث جابر المذكور في الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الثنيا } رواه مسلم في صحيحه هكذا من رواية الترمذي والنسائي وزاد " نهى عن بيع الثنيا إلا أن يعلم " قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ، وهذه الزيادة التي ذكرها الترمذي والنسائي حسنة ، فإنها مبنية لرواية مسلم المذكورة في الكتاب ، وقد سبق بيان القفيز وأن الذراع تؤنث وتذكر ، والتأنيث أفصح وقوله : ( لأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بقدره ) احتراز من شرط الثواب في الهبة على أحد القولين ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      [ ص: 377 ] أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : يشترط العلم بمقدار المبيع وهذا لا خلاف فيه للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الغرر } فلو قال بعتك بعض هذه الصبرة أو بعض العبد أو الثوب ونحوه لم يصح بلا خلاف ، لأنه يقع على القليل والكثير ( أما ) إذا قال : بعتك صاعا من هذه الصبرة فله حالان ( أحدهما ) أن يعلما مبلغ صيعانها ، فيصح البيع بلا خلاف ، وينزل على الإشاعة ، فإذا كانت الصبرة مائة صاع فالمبيع عشر عشرها ، فلو تلف بعضها تلف بقدره من المبيع ، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وحكى إمام الحرمين في تنزيله وجهين ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) المبيع صاع من الجملة غير مشاع ، أي صاع كان ، وعلى هذا قالوا : يبقى المبيع ما بقي صاع ، ولو تلف بعضها لم يقسط على المبيع وغيره .

                                      ( الحال الثاني ) إن كانا لا يعلمان أو أحدهما مبلغ صيعانها فوجهان ( أحدهما ) وهو اختيار القفال لا يصح البيع كما لو فرق صيعانها ، قال : بعتك صاعا منها ، فإنه لا يصح على المذهب ، وبه قطع الأصحاب إلا القاضي أبا الطيب فصححه ، وسبق نقله عنه ( والوجه الثاني ) يصح ، وهو المذهب المنصوص ، وبه قطع المصنف وسائر العراقيين ، وطوائف من غيرهم ، لأن المبيع معلوم القدر ، فصار كالبيع بدرهم مطلقا ، فإنه يصح وينزل على النقد الغالب ، ولا يشترط أن يبين صفة الدرهم ولا وزنه ، لكونه معروفا وكذا الصاع ، وفي فتاوى القفال أنه كان إذا سئل عن هذه المسألة يفتي بالصحة مع أنه يعتقد البطلان ، فيقال له فيقول : المستفتي يستفتيني عن مذهب الشافعي رضي الله عنه لا عن اعتقادي .

                                      ( فإذا قلنا ) بالمذهب وهو الصحة فالمبيع صاع منها ، أي صاع كان ، فلو تلف جميعها إلا صاعا تعين العقد فيه ، والبائع بالخيار إن شاء سلم صاعا من أعلاها ، وإن شاء من أسفلها ، وإن شاء من جوانبها ، ولا يضر [ ص: 378 ] كون باطن الصبرة غير مرئي ، لأن رؤية ظاهر الصبرة كرؤية كلها ، وهذا الذي ذكرناه من أنه إذا تلف إلا صاعا واحدا تعين العقد هو المذهب ، وبه قطع الجمهور منهم إمام الحرمين والروياني والرافعي ، وقال صاحبا العدة والبيان : لا يتعين خلافا لأبي حنيفة ، بل يكون مشتركا ، وهذا شاذ باطل ، والصواب الأول قال الروياني : فلو تلفت كلها إلا بعض صاع يسلمه إلى المشتري إن رضيه وسقط من الثمن بقدر ما فات من الصاع ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( فرع ) قال الشافعي والأصحاب لو قال : بعتك هذه الصبرة إلا صاعا منها فإن كانت مجهولة الصيعان لم يصح البيع لأن المبيع مجهول القدر ، وليس متميزا حتى تكفي فيه المشاهدة ، وإن كانت معلومة الصيعان صح البيع ونزل على الإشاعة كما سبق ، فإن كانت عشرة آصع كان المبيع تسعة أعشارها ، واحتج القفال فيما إذا كانت مجهولة بأنه لا يصح بيع صاع من صبرة كما حكينا عن اختياره ، قال الغزالي في الوسيط في توجيه قول القفال : أي فرق بين استثناء المعلوم من المجهول ؟ والمجهول من المعلوم ؟ والإبهام يعمهما ، قال : وفي الفرق غموض واعتراض على الغزالي في هذا بأنه ليس فيه غموض لأن المبيع معلوم المقدار في مسألة بيع صاع من الصبرة ، بخلاف الصبرة إلا صاعا ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( فرع ) إذا باع الصبرة من الحنطة أو الشعير أو الجوز أو غير ذلك جزافا ولم يعلم واحد منهما قدرها كيلا ولا وزنا ، ولكن شاهدها فالبيع صحيح بلا خلاف عندنا ، ويكفي رؤية ظاهرها لأن الظاهر أن أجزاءها متساوية ، ويشق تقليبها والنظر إلى جميع أجزائها بخلاف الثوب المطوي . قال الشافعي والأصحاب : وكذا لو باع بصبرة من الدراهم جزافا لا يعلم واحد منهما قدرها ، لكنها مشاهدة لهما صح البيع بلا خلاف عندنا ، لكن هل يكره بيع الصبرة جزافا ؟ والبيع بصبرة الدراهم جزافا ؟ [ ص: 379 ] فيه قولان حكاهما الخراسانيون ( أصحهما ) يكره ، وبه قطع المصنف وآخرون . لما فيه من الغرر ( والثاني ) لا يكره لأنها مشاهدة ، وممن حكى القولين من العراقيين صاحب البيان ونقل أصحابنا عن مالك أنه قال : إذا علم البائع كيل الصبرة ولم يبينه بطل البيع .

                                      ( فرع ) إذا باعه نصف هذه الصبرة أو ثلثها أو ربعها أو عشرها أو غير ذلك من أجزائها المعلومة أو باعها إلا نصفها أو ربعها أو غير ذلك من أجزائها المعلومة صح البيع بلا خلاف ( أما ) إذا قال : بعتك بعض هذه الصبرة أو نصيبا منها أو أجزاء أو سهما أو ما شئت ، ونحو هذا من العبارات التي ليس فيها قدر معلوم ، فالبيع باطل بلا خلاف ، لأنه غرر ، ولو قال : بعتك هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة على أن أنقصك قفيزا منها جاز ، لأنه باعه تسعة أعشارها ، ولو قال : بعتك هذه الصبرة ، كل قفيز بدرهم ، أو هذا الثوب ، كل ذراع بدرهم ، أو هذه الأغنام ، كل شاة بدرهم ، صح البيع في الجميع كما ذكرنا ، ولا تضر جهالة جملة الثمن لأن الثمن معلوم التفصيل ، والمبيع معلوم بالمشاهدة فانتفى الغرر هذا هو المذهب ، وبه قطع الأصحاب في طرقهم . وحكى الدارمي والرافعي وجها لأبي الحسين بن القطان أنه لا يصح البيع في شيء من ذلك ، وهذا شاذ ضعيف . ولو قال : بعتك من هذه الصبرة ، كل قفيز بدرهم لم يصح ، لأن ( من ) للتبعيض ولفظ ( كل ) للعدد ، فيصير كأنه قال : بعتك أقفزة من هذه الصبرة ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور . وفيه وجه ضعيف لابن سريج أنه يصح في صاع واحد بدرهم ، حكاه عنه الروياني وآخرون وحكاه الدارمي ، كما قال في نظيره في الإجارة إذا قال : أجرتك من هذه الصبرة كل شهر بدرهم أنه يصح في الشهر الأول بدرهم . ونقل إمام الحرمين في كتاب الإجارة عن الأصحاب أنهم قالوا : إذا قال : بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم لم يصح البيع ، لأنه لم يضف إلى جميع الصبرة ، [ ص: 380 ] بخلاف ما لو قال : بعتك هذه الصبرة بدرهم قال : وكان ينبغي أن يفرق فيقال : إن قال : بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم بطل على المذهب ، ويصح قول ابن سريج في صاع واحد ، قال : وكذلك يفرق في الإجارة ، وقد قال بهذا الشيخ أبو محمد الجويني ، فسوى بين قوله : بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم ، وبين قوله : بعتك هذه الصبرة ، كل صاع بدرهم ، فصحح البيع في الصورتين في جميع الصبرة ، والمذهب الذي قطع به الجمهور : الفرق وهو صحته في : بعتك الصبرة كل صاع بدرهم ، وبطلانه في : بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( أما ) إذا قال : بعتك عشرة من هذه الأغنام بمائة درهم ، وعلم عدد الشياه فلا يصح البيع بلا خلاف ، بخلاف مثله في الصبرة والثوب والأرض فإنه يصح البيع وينزل على الإشاعة لأن قيمة الشياه تختلف . ولو قال : بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم كل صاع بدرهم ، ، أو قال مثله في الأرض أو الثوب نظر - إن خرج المبيع كما ذكر - صح البيع ، وإن كان زائدا أو ناقصا فقولان مشهوران ( أصحهما ) لا يصح البيع لتعذر الجمع بين الأمرين ( والثاني ) يصح لوجود الإشارة إلى الصبرة ويلغو الوصف ، فعلى هذا إن خرج ناقصا فللمشتري الخيار ، فإن أجاز فوجهان ( أصحهما ) يخير بقسط الموجود ، لأنه قابل كل صاع بدرهم ( والثاني ) يخير بجميع الثمن لأنه قابل الجملة به ، وإن خرج زائدا فلمن تكون الزيادة ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) للمشتري ، فعلى هذا لا خيار له قطعا ، ولا للبائع على أصح الوجهين ( والثاني ) يكون للبائع ، فعلى هذا لا خيار له وفي ثبوته للمشتري وجهان ( أصحهما ) ثبوته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      ( فرع ) لو كانت الصبرة على موضع من الأرض فيه ارتفاع وانخفاض فباعها وهي كذلك ، أو باع السمن أو نحوه في ظرف مختلف [ ص: 381 ] الأجزاء رقة وغلظا ، ففيه ثلاثة طرق ( أصحها ) أن في صحة البيع قولي بيع الغائب ، لأنه لم يحصل رؤية تفيد المعرفة ( والثاني ) القطع بالصحة ( والثالث ) القطع بالبطلان وهذا ضعيف ، قال الرافعي : وهو ضعيف وإن كان منسوبا إلى المحققين ( فإن قلنا ) بالصحة فوقت الخيار هنا معرفة مقدار الصبرة أو التسكن من تخمينه برؤية ما تحتها ( وإن قلنا ) بالبطلان فلو باع الصبرة والمشتري يظنها على أرض مستوية ، فبان تحتها دكة ، فهل يتبين بطلان البيع ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) لا ، بل هو صحيح ، وللمشتري الخيار كالعيب والتدليس ، وبهذا قطع صاحب الشامل وغيره ( والثاني ) يبطل ، وهو اختيار الشيخ أبي محمد لأن معرفة المقدار تخمينا أو تحقيقا شرط ، وقد تبينا فواتها .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : إذا قال : بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعا ، فإن أراد بذلك هبة فباع لم يصح ، لأنه شرط عقد في عقد ، وإن أراد بيعه فباع آخر من غير الصبرة لم يصح ، لأنه إن كان الصاع مجهولا فهو بيع مجهول ، وإن كان معلوما لم يصح إذا كانت الصبرة مجهولة الصيعان ، لأنا نجهل تفصيل الثمن وجملته ، وإن أراد أنه يزيده صاعا من هذه الصبرة وأنها إن خرجت عشرة آصع كان الثمن تسعة دراهم ، فينظر إن كانت الصبرة مجهولة الصيعان لم يصح البيع بلا خلاف ، لأنه لا يعلم حصة كل صاع . وإن كانت معلومة الصيعان فوجهان مشهوران في كتب العراقيين حكاهما الشيخ أبو حامد ومتابعوه وغيرهم ( أصحهما ) يصح ، وبهذا قطع إمام الحرمين والغزالي البغوي والرافعي ومعظم الخراسانيين ، وإذا كانت عشرة آصع فقد باعه كل صاع وتسع صاع بدرهم ( والثاني ) لا يصح ، رجحه الشيخ أبو حامد والروياني ، وادعى الروياني أن العراقيين كلهم جزموا به سوى القاضي أبي الطيب ، وغلط في هذه الدعوى فالخلاف [ ص: 382 ] مشهور في ذلك في كتب العراقيين كالشيخ أبي حامد والماوردي والمحاملي وغيرهم ، والمذهب الصحة .

                                      وإن قال : بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أنقصك صاعا فإن أراد رد صاع إليه - فالبيع باطل ، وإن أراد أنها إن خرجت تسعة آصع أخذت منك عشرة دراهم ، فإن كانت الصيعان مجهولة ، لم يصح البيع بلا خلاف وإن كانت معلومة فوجهان ( الصحيح ) الذي قطع به العراقيون والجمهور وغيرهم صحة البيع ، فإذا كانت تسعة آصع فقد باع كل صاع بدرهم وتسع ( والثاني ) لا يصح لقصور العبارة عن الحمل المذكور ، حكاه الرافعي ولو قال : بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعا أو أنقصك صاعا ولم يبين أنه ينقصه أو يزيده لا يصح البيع بلا خلاف ، قال الروياني ولو قال : بعتكها ، كل صاع بدرهم على أن تهب لي منها صاعا لم يصح لأنه شرط هبة البائع ، وإن أراد أن الثمن بجملته يقابل جميع الصبرة إلا صاعا منها وهي معلومة الصيعان صح البيع ، ويصير كأنه باع كل صاع بدرهم وتسع درهم ، أعني إذا كانت عشرة آصع ، فإن أراد أنه يأخذ جميع الصيعان العشرة ويعطيه أحد عشر درهما جاز أيضا إذا كانت معلومة ، وإن قال : أزيدك من غيرها لم يصح بكل حال للجهالة . قال : فلو قال : بعتك هذا الثوب أو الأرض كل ذراع بدرهم على أن أزيدك ذراعا أو قال : على أن أنقصك ذراعا فحكمه حكم نظيره من الصبرة .

                                      ( فرع ) لو كانت له صبرة بعضها مختلط ، وباع جميعها جزافا جاز ، لأن المبيع مشاهد ، وإن باع صاعا منها ، فإن كانت الحنطة والشعير سواء جاز قطعا وإلا فوجهان . حكاهما الروياني ( أصحهما ) الجواز .

                                      [ ص: 383 ] فرع ) لو كان له صبرة ، ولآخر صبرة . فقال : بعتك من صبرتي بقدر صبرتك بدينار ، لم يصح البيع ، نص عليه الشافعي في كتاب الصرف واتفقوا عليه .



                                      ( فرع ) فيما إذا كان المبيع فيما لا تتساوى أجزاؤه ، كالأرض والدار والثوب ، ففيه مسائل : ( إحداها ) إذا قال : بعتك هذه الدار كل ذراع بدرهم جاز سواء علما ذرعانها أم لا ، كما قلنا في بيع الصبرة كل صاع بدرهم ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور ، وقال الماوردي : إن علما ذرعانها صح وإلا فوجهان ( أحدهما ) وهو قول أصحابنا البصريين يجوز كالصبرة ( والثاني ) وهو قول أصحابنا البغداديين لا يجوز ، للجهل بجملة الثمن ، قال الروياني : لعله أراد بالبغداديين بعضهم .

                                      ( أما ) إذا قال : بعتك ربع هذه الدار أو ثلثها ، فيصح قطعا ، سواء علما ذرعانها أو لا ، وإن قال : بعتك من هذه الدار كل ذراع بدرهم لم يصح قطعا ولا يجيء فيه الوجه السابق في نظيره من الصبرة عن ابن سريج أنه يصح في صاع واحد ، لأن أجزاء الدار تختلف بخلاف الصبرة ، ولو قال : بعتك من هذه الدار عشرة أذرع كل ذراع بدرهم ، فإن كانت ذرعانها مجهولة لهما أو لأحدهما لم يصح البيع بلا خلاف ، بخلاف نظيره من الصبرة ، فإنه يصح على الأصح ، والفرق ما ذكرناه الآن من اختلاف أجزاء الدار دون الصبرة ، وإن كانت ذرعانها معلومة لهما صح البيع عندنا ، وحمل على الإشاعة ، فإذا كانت مائة ذراع كان المبيع عشرها مشاعا ، وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة : لا يصح ، وهو وجه لبعض أصحابنا حكاه الرافعي ( والصحيح ) المشهور الصحة ، وبه قطع الأصحاب قال إمام الحرمين : إلا أن يقصد أذرعا معينة فيبطل البيع كشاة من القطيع . [ ص: 384 ] ولو اختلفا فقال المشتري : أردت الإشاعة فالعقد صحيح ، فقال البائع : بل أردت معينا ففيمن يصدق ؟ احتمالان أرجحهما يصدق البائع ، لأنه أعلم بنيته وهذا بخلاف ما لو اختلفا في شرط مفسد للعقد . فإن الأصح تصديق مدعي الصحة ، لأنه ليس هناك مرجح ، والظاهر جريان عقود المسلمين صحيحة ( وأما ) هنا فيترجح جانب الناوي ، لأنه أعلم بنيته ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( الثانية ) إذا قال في الدار أو الأرض : بعتك من هنا إلى هنا صح البيع بلا خلاف ، وإن وقف في وسطها فقال : بعتك أذرعا ابتداؤها من هنا ولم يبين إلى أي جهة تذرع ، لم يصح بلا خلاف ، لأنه يختلف ويتفاوت به الغرض وإن قال : ابتداؤها من هنا إلى هذه الجهة في جميع العرض ، ولم يبين إلى أين ينتهي فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب ( أصحهما ) الصحة وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة ، وصححه الأكثرون ومنهم الرافعي وغيره لانتفاء الغرر ( والثاني ) لا يصح لأنه قد ينتهي الذراع . إلى موضع يخالف الابتداء ، وصحح الروياني في البحر هذا .

                                      ( الثالثة ) إذا باع ذراعا أو أذرعا من ثوب ، فإن كانت ذرعانه معلومة لهما صح البيع ونزل على الإشاعة ، فإن كان باعه ذراعا والجملة عشرة كان المبيع العشر شائعا كما سبق في الصبرة وفي الأرض والدار ، هذا هو المذهب ، وفيه الوجه الشاذ السابق في الدار والأرض والصبرة أنه لا يصح البيع والصواب الأول . وإن كانت ذرعانه مجهولة لهما أو لأحدهما - نظر إن كان الثوب مما لا تنقص قيمته بالقطع كالكرباس الغليظ ونحوه - فوجهان حكاهما الشيخ أبو محمد الجويني وإمام الحرمين والغزالي ومن تابعهم ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والجمهور : يصح البيع كبيع أذرع من أرض وصيعان [ ص: 385 ] من صبرة ( والثاني ) لا يصح ، لأنه لا يلزم منه تغيير عين المبيع ، وإن كان تنقص قيمته بالقطع فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب ( الصحيح ) المنصوص أنه لا يصح لأنه شرط إدخال نقص في عين المبيع ( والثاني ) يصح لأنه رضي بالضرر ، وهذا الوجه قول ابن سريج واختاره صاحب التقريب القاسم بن القفال الشاشي ، وقاسوه على بيع ذراع من الدار وعلى بيع أحد زوجي الخف فإنه يصح ، وإن نقصت قيمتها بتقدير التفريق والفرق أو ذلك النقص ليس في نفس الخف بخلاف مسألتنا . وإذا جمعت صورتي الثوب قلت : إذا باع ذراعا من ثوب مجهول الذرعان فثلاثة أوجه ( أحدها ) الصحة ( والثاني ) البطلان ( أصحهما ) إن لم تنقص قيمته بالقطع صح ، وإلا فلا ، وطريق من أراد شراء ذراع من ثوب حيث قلنا : لا يصح أن يواطئ صاحبه على شرائه ، ثم يقطع قبل الشراء ، ثم يشتريه بعد قطعه ، فيصح بلا خلاف ، والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) إذا باع جزءا شائعا من سيف أو سكين أو إناء أو نحوها ، صح بلا خلاف ، وصار مشتركا . ولو عين بعضه وباعه لم يصح ، هكذا قطع به الأصحاب ، قال الرافعي : القياس أن يجيء فيه الوجهان السابقان في ذراع من ثوب ينقص بالقطع ( أما ) إذا باع جزءا معينا من جدار أو أسطوانة ونحوها - فإن كان فوقه شيء - لم يصح ، لأنه لا يمكن تسليمه إلا بهدم ما فوقه ، وإن لم يمكن نظر - إن كان قطعة واحدة من طين أو خشب أو غيرهما - لم يصح ، وإن كان من لبن أو آجر جاز وهكذا أطلقه صاحب التلخيص ، قال الرافعي : وهو محمول عند الأصحاب على ما إذا جعلت النهاية صنفا من الآجر أو اللبن دون ما إذا جعل المقطع نصف سمكها ، قال الرافعي : وفي تجويزه إذا كان من آجر أو لبن إشكال ، وإن جعلت النهاية ما ذكروه لأن موضع الشق قطعة واحدة ولأن رفع بعض الجدار ينقص قيمة الباقي فيفسد البيع ولهذا قالوا : لو باع جذعا في بناء لم يصح [ ص: 386 ] البيع لأن النقص يحصل بالهدم قال : ولا فرق بين الجذع والآجر وكذا الحكم لو باع فصا في خاتم .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا إذا قال : بعتك ثمرة هذا البستان بثلاثة آلاف درهم إلا ما يخص ألفا إذا وزعت الثمرة على ثلاثة آلاف صح البيع ، ويكون قد استثنى ثلثها ، فيحصل البيع في ثلثها بثلاث آلاف ، ولو قال : بعتكها بأربعة آلاف إلا ما يخص ألفا صح البيع في ثلاثة أرباعها بأربعة آلاف ، ولو قال : إلا ما يساوي ألفا لم يصح البيع لأن ما يساوي الألف مجهول .



                                      ( فرع ) لو قال : بعتك ملء هذا الكوز من هذه الصبرة ففي صحة البيع وجهان ( أحدهما ) لا يصح كما لو أسلم في ملئه ( وأصحهما ) الصحة ، لأنه لا غرر فيه في صورة البيع ، ولو عين في البيع أو السلم مكيالا معتادا فوجهان ( أحدهما ) يفسد البيع والسلم ، لاحتمال تلفه ( وأصحهما ) الصحة في البيع والسلم ، ويلغو تعيينه كسائر الشروط التي لا غرض فيها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية