الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : القول في مسح الأذنين

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله عنه : ويمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد ويدخل إصبعيه في صماخي أذنيه .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح . مسح الأذنين سنة وليس بواجب وهو قول جمهور الفقهاء ، وقال إسحاق ابن راهويه : مسح الأذنين واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه حين توضأ ، وعنده أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب ما لم يصر فيها دليل .

                                                                                                                                            ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه ، فيغسل وجهه وذراعيه ، ويمسح برأسه ويغسل رجليه " فلما اقتصر بمواضع الوضوء على الأعضاء الأربعة انتفى وجوب ما عداها وهذا مخصص لفعل النبي أنه على الاستحباب ، لو كانت أفعاله دليلا على الإيجاب فكيف وقد اختلف أصحابنا فيها .

                                                                                                                                            فإذا تقرر أن مسح الأذنين سنة قد اختلف الفقهاء فيهما هل هما من الرأس أو من الوجه ؟ على أربعة مذاهب : [ ص: 121 ] أحدها : وهو مذهب الشافعي أنهما ليسا من الرأس ولا من الوجه ، بل هما سنة على حيالهما فيمسحان بماء جديد .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : وهو قول أبي حنيفة ومالك أنهما من الرأس لكن قال أبو حنيفة يمسحان مع الرأس ، وقال مالك : يمسحهما بماء جديد .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : وهو قول ابن سيرين والزهري أنهما من الوجه يغسلان معه .

                                                                                                                                            والمذهب الرابع : وهو قول الشعبي أن ما أقبل منهما من الوجه يغسل معه ، وما أدبر منهما من الرأس يمسح معه .

                                                                                                                                            واستدل من قال إنهما من الرأس برواية أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الأذنان من الرأس " .

                                                                                                                                            وقد قيل في تأويل قوله تعالى : وأخذ برأس أخيه [ الأعراف : 150 ] . أي بأذنه فاقتضى أن يكون الأذن رأسا ، قال : ولأنه ممسوح متصل بالرأس فوجب أن يكون منه حكما قياسيا على جوانب الرأس .

                                                                                                                                            وأما من ذهب إلى " أنهما من الوجه فاستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده : " سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره " ، فأضاف السمع إلى الوجه ، وأما من ذهب إلى أن ما أقبل من الوجه وما أدبر من الرأس استدل بأن الوجه ما حصلت به المواجهة ، والمواجهة حاصلة بما أقبل منه فاقتضى أن يكون من الوجه .

                                                                                                                                            ودليلنا ما ذكره أبو إسحاق في شرحه أن النبي صلى الله عليه وسلم " أخذ لهما ماء جديدا " وهذا نص ، ولأن كل عضو لم يكن محلا لفرض مسح الرأس لم يكن من الرأس ، أصله اليدان طردا وآخر الرأس عكسا .

                                                                                                                                            ولأن المسح أحد نوعي الوضوء فوجب أن يتنوع أعضاؤه نوعين فرضا وسنة كغسل بعض أعضائه سنة مفردة وهو المضمضة والاستنشاق ، وبعضه فرض وهو باقي الأعضاء ؛ ولأن كل محل لا يجزئ حلق شعره عن نسك المحرم ، لم يجز أن يكون من الرأس كالوجه ؛ ولأن للرأس أحكاما ثلاثة منها فرض المسح ، ومنها إحلال المحرم بحلقه أو تقصيره [ ص: 122 ] ومنها وجوب الفدية عليه بتغطيته ، فلما لم يتعلق بالأذنين من أحكام الرأس ما سوى المسح لم يتعلق بها حكم المسح ولأنه لما لم يكن البياض المحيط بالأذن من الرأس مع قربه فلأن لا تكون الأذن من الرأس مع بعدها أولى .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بحديث أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الأذنان من الرأس " .

                                                                                                                                            فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدهما : أن راويه عن أبي أمامة ، شهر بن حوشب ، وشهر ضعيف عند أصحاب الحديث لأنه خرف في آخر أيامه فخلط في حديثه ، وقد حكي عنه في حال الخريطة ما أنشد فيه من الشعر ما أرغب بنفسي عن ذكره .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : وهو أن حماد بن زيد وهو راوي الحديث قال : لا أدري هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو أبي أمامة .

                                                                                                                                            والجواب الثالث : أنه إن صح فمعناه أنه يمسحان كمسح الرأس ، وأما استدلالهم بتأويل قوله تعالى : وأخذ برأس أخيه يجره إليه [ الأعراف : 150 ] . أي بأذنه فهو تأويل يدفعون عنه بالظاهر من اسم الرأس .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على إجزاء الرأس فالمعنى فيه أنه محل لفرض المسح وليس كذلك الأذنان . وأما استدلال من ذهب بأنهما من الوجه بقوله سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره ، فالوجه إنما هو عبارة عن الجملة والذات كما قال تعالى : ويبقى وجه ربك [ الرحمن : 27 ] . ومن الدليل على أن الأذنين ليستا من الوجه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي في الوجه وأباح الكي في الأذن .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن الأذنين سنة على حيالهما مفردة بماء جديد فالسنة أن يمسحهما معا بيديه ظاهرا وباطنا في حالة واحدة لا يقدم يمنى على يسرى ، وليس في أعضاء الطهارة عضوان لا تقدم اليمنى منهما على اليسرى غير الأذنين ثم يدخل إصبعيه في صماخي أذنيه لرواية المقدام بن معد يكرب قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح بأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل إصبعيه في صماخي أذنيه بماء جديد " .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا هل يدخل إصبعيه في صماخي أذنيه بماء جديد أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 123 ] أحدهما : وهو مذهب البصريين وحكاه البويطي عن الشافعي : أنه يدخل إصبعيه في صماخيه بماء جديد غير ماء أذنيه ، فعلى هذا يكون إدخال الإصبعين في الصماخين سنة زائدة على مسح الأذنين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو مذهب البغداديين أنه يدخل إصبعيه في صماخيه بماء أذنيه ، فعلى هذا يكون ذلك من جملة مسح الأذنين ولا يكون سنة زائدة على مسح الأذنين ، وقد حكي عن أبي العباس ابن سريج في مسح أذنيه أنه كان يغسلهما ثلاثا مع وجهه كما قال ابن سيرين والزهري ، ويمسحهما مع رأسه كما قال أبو حنيفة ويمسحهما ثلاثا مفردة كما قال الشافعي ، ولم يكن أبو العباس يفعل ذلك واجبا وإنما كان يفعله احتياطا واستحبابا ليكون من الخلاف خارجا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية