الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
تنبيهات

( الأول ) : لا خلاف بين العقلاء أن الله - سبحانه وتعالى - متصف بجميع صفات الكمال ، منزه عن جميع صفات النقص ، لكنهم مع اتفاقهم على ذلك اختلفوا في الكمال والنقص ، فتراهم يثبت أحدهم لله ما يظنه كمالا ، وينفي [ ص: 105 ] الآخر عين ما أثبته هذا لظنه نقصا ، وسبب ذلك أنهم سلطوا الأفكار على ما لا سبيل إليه من طريق الفكر ، فإن الله - تعالى - خلق العقول ، وأعطاها قوة الفكر ، وجعل لها حدا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة ، لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي ، فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدها ووفت النظر حقه ، أصابت بإذن الله - تعالى ، وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدها الذي حده الله لها ، ركبت متن عمياء ، وخبطت خبط عشواء ، فلم يثبت لها قدم ، ولم ترتكن على أمر تطمئن إليه ، فإن معرفة الله التي وراء طورها مما لا تستقل العقول بإدراكها من طريق الفكر وترتيب المقدمات ، وإنما تدرك ذلك بنور النبوة وولاية المتابعة ، فهو اختصاص إلهي يختص به الأنبياء وأهل وراثتهم مع حسن المتابعة ، وتصفية القلب من وضر البدع والفكر من نزغات الفلسفة ، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

ومما يوضح ذلك أن العقول لو كانت مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه ، لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب ، واللازم باطل بالنص ، قال - تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، وقال - تعالى : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) ، فكذا الملزوم ، فلما بعث الله الرسل ، وأنزل الكتب ، وجبت لله على الخلق الحجة البالغة ، وانقطعت علقة الاعتذار ، ( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ، ولما عجزت العقول من طريق الفكر عن معرفة الحق التي هي وراء طورها ومنحها القبول ، وقد أنزل الكتاب ، وأنزل فيه ما حارت في إدراكه العقول من الآيات المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله ، أمرنا الشارع بالإيمان بها ، ونهانا عن التفكير في ذات الله رحمة منه بنا ولطفا لعجزنا عن إدراكه ، فإن تسليط الفكر على ما هو خارج عن حده تعب بلا فائدة ، ونصب من غير عائدة ، وطمع في غير مطمع ، وكد من غير منجع ، وقد أمرنا بالإيمان بالمتشابه .

[ ص: 106 ] وفي الحديث " تعلموا القرآن والتمسوا غرائبه - يعني فرائضه أي حدوده - وهي حلال وحرام ، ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، واعتبروا بأمثاله " . رواه الديلمي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه ، وأخرجه الحاكم وصححه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ولفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف : زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فأحلوا حلاله ، وحرموا حرامه ، وافعلوا ما أمرتم به ، وانتهوا عما نهيتم عنه ، واعتبروا بأمثاله ، واعملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا " . وروى نحوه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة . وروى ابن جرير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنزل القرآن على أربعة أحرف : حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته ، وتفسير تفسره العرب ، وتفسير تفسره العلماء ، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب " . ثم رواه من وجه آخر ، عن ابن عباس موقوفا بنحوه . وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : نؤمن بالمحكم ، وندين به ، ونؤمن بالمتشابه ، ولا ندين به ، وهو من عند الله كله . وقالت عائشة - رضي الله عنها : كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه . ولما قدم صبيغ المدينة المنورة وجعل يسأل عن متشابه القرآن ، أرسل إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد أعد له عراجين النخل ، فقال : من أنت ؟ قال : عبد الله صبيغ . فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين ، فضربه حتى أدمى رأسه ، وفي رواية : فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ، ثم تركه حتى برئ ، ثم أعاد عليه الضرب ، ثم تركه حتى برئ ، فدعا به ليعيده عليه ، فقال : إن كنت تريد قتلي ، فاقتلني قتلا جميلا ، أو ردني إلى أرضي . فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين .

وفي فروع ابن مفلح [ ص: 107 ] من علمائنا أن عمر - رضي الله عنه - أمر بهجر صبيغ لسؤاله عن الذاريات والمرسلات والنازعات انتهى .

وهذا من سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لسد باب الذريعة . والآية الشريفة دلت على ذم متبعي المتشابه ، ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة ، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه ، كما مدح الله - تعالى - المؤمنين بالغيب ، فعلى العاقل الناصح لدينه ونفسه أن يسلك مسلك السلف الصالح ، وأن يرقى على سلم التسليم ، فإنه من أنجح المصالح ، وأن يؤمن بالمتشابهات من آيات الأسماء والصفات ، كما فعل الصحابة والتابعون ، ويمتثل أمر نبيه خاتم النبيين وإمام المرسلين في قوله : وآمنوا بمتشابهه ، وقولوا : آمنا به كل من عند ربنا . فلقد بالغ في النصيحة بأدلة صحيحة ، وكلمات فصيحة ، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن قومه ، ورسولا عن أمته ، ورضي الله - تعالى - عن آله وصحبه ، والتابعين لهم بإحسان ، وذوي الحق وحزبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية