الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
البحث الثالث في أسبابه

اعلم أن للالتفات فوائد عامة وخاصة ، فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر [ ص: 391 ] لما في ذلك من تنشيط السامع ، واستجلاب صفائه ، واتساع مجاري الكلام ، وتسهيل الوزن والقافية .

وقال البيانيون : إن الكلام إذا جاء على أسلوب واحد وطال حسن تغيير الطريقة .

ونازعهم القاضي شمس الدين الخويي ، وقال : الظاهر أن مجرد هذا لا يكفي في المناسبة ، فإنا رأينا كلاما أطول في هذا ، والأسلوب محفوظ ، قال تعالى : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ( الأحزاب : 35 ) إلى أن ذكر عشرة أصناف وختم بـ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات ( الأحزاب : 35 ) ولم يغير الأسلوب ، وإنما المناسبة أن الإنسان كثير التقلب ، وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء ، فإنه يكون غائبا فيحضر بكلمة واحدة ، وآخر يكون حاضرا فيغيب ، فالله تعالى لما قال : الحمد لله رب العالمين ( الفاتحة : 2 ) تنبه السامع وحضر قلبه ، فقال : إياك نعبد وإياك نستعين ( الفاتحة : 5 ) وأما الخاصة فتختلف باختلاف محاله ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم .

فمنها قصد تعظيم شأن المخاطب ، كما في الحمد لله رب العالمين ( الفاتحة : 2 ) فإن العبد إذا افتتح حمد مولاه بقوله " الحمد لله " الدال على اختصاصه بالحمد وجد من نفسه التحرك للإقبال عليه سبحانه ، فإذا انتقل إلى قوله : رب العالمين ( الفاتحة : 2 ) الدال على ربوبيته لجميعهم قوي تحركه ، فإذا قال : الرحمن الرحيم ( الفاتحة : 3 ) الدال على أنه منعم بأنواع النعم جليلها وحقيرها تزايد التحرك عنده ، فإذا وصل لـ مالك يوم الدين ( الفاتحة : 4 ) وهو خاتمة الصفات الدالة على أنه مالك الأمر يوم الجزاء ، فيتأهب قربه وتيقن الإقبال عليه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات .

[ ص: 392 ] وقيل : إنما اختير للحمد لفظ الغيبة وللعبادة الخطاب ، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة ؛ فإنك تحمد نظيرك ولا تعبده ، إذ الإنسان يحمد من لا يعبده ، ولا يعبد من لا يحمده ، فلما كان كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر ، فقال : الحمد لله ولم يقل : " الحمد لك " ، ولفظ العبادة مع الخطاب فقال : إياك نعبد ( الفاتحة : 5 ) لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ما هو أعلى رتبة ، وذلك على طريق التأدب ، وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال : الذين أنعمت عليهم ( الفاتحة : 7 ) مصرحا بذكر المنعم ، وإسناد الإنعام إليه لفظا ، ولم يقل : صراط المنعم عليهم . فلما صار إلى ذكر الغضب روى عنه لفظ الغضب في النسبة إليه لفظا ، وجاء باللفظ متحرفا عن ذكر الغاضب ، فلم يقل : " غير الذين غضبت عليهم " تفاديا عن نسبة الغضب في اللفظ حال المواجهة .

ومن هذا قوله : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ( الإسراء : 111 ) فإن التأدب في الغيبة دون الخطاب .

وقيل : لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربا للعالمين ورحمانا ورحيما ومالكا ليوم الدين تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بأن يكون معبودا دون غيره ، مستعانا به ، فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة ، تعظيما لشأنه كله حتى كأنه قيل : إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك .

قيل : ومن لطائفه التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه ، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته ، وقيام حجاب العظمة عليهم ، فإذا عرفوه بما هو له ، وتوسلوا للقرب بالثناء عليه ، وأقروا بالمحامد له وتعبدوا له بما يليق بهم ، تأهلوا لمخاطباته ومناجاته ، فقالوا : إياك نعبد وإياك نستعين ( الفاتحة : 5 ) .

[ ص: 393 ] وفيه أنهم يبدون بين يدي كل دعاء له سبحانه ومناجاة له صفات عظمته لمخاطبته على الأدب والتعظيم ، لا عن الغفلة والإغفال ، ولا عن اللعب والاستخفاف ، كمن يدعو بلا نية أو على تلعب وغفلة ، وهم كثير .

ومنه أن مناجاته لا تصعد إلا إذا تطهر له من أدناس الجهالة به ، كما لا تسجد الأعضاء إلا بعد التطهير من حدث الأجسام ، ولذلك قدمت الاستعاذة على القرآن .

قال الزمخشري : وكما في قوله تعالى : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول ( النساء : 64 ) ولم يقل : " واستغفرت لهم " لأن في هذا الالتفات بيان تعظيم استغفاره ، وأن شفاعة من اسمه الرسول بمكان .

ومنها التنبيه على ما حق الكلام أن يكون واردا عليه : كقوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ( يس : 22 ) أصل الكلام : " وما لكم لا تعبدون الذي فطركم " ولكنه أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ، ليتلطف بهم ، ويريهم أنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ، ثم لما انقضى غرضه من ذلك قال : وإليه ترجعون ( يس : 22 ) ليدل على ما كان من أصل الكلام ، ومقتضيا له ، ثم ساقه هذا المساق إلى أن قال : آمنت بربكم فاسمعون ( يس : 25 ) .

ومنها أن يكون الغرض منه التتميم لمعنى مقصود للمتكلم ؛ فيأتي به محافظة على تتميم ما قصد إليه من المعنى المطلوب له ؛ كقوله : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ( الدخان : 4 ، 5 ، 6 ) أصل الكلام : إنا كنا مرسلين رحمة منا ، ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر ، للإنذار بأن الربوبية تقتضي الرحمة للمربوبين ، للقدرة عليهم ، أو لتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر ، أو الإشارة [ ص: 394 ] إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره ، ثم التفت بإعادة الضمير إلى الرب الموضوع موضع المضمر ، للمعنى المقصود من تتميم المعنى .

ومنها قصد المبالغة ؛ كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ( يونس : 22 ) كأنه يذكر لغيرهم حالهم ؛ ليتعجب منها ويستدعي منه الإنكار والتقبيح لها ، إشارة منه على سبيل المبالغة إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغي في الأرض بغير الحق مما ينكر ويقبح .

ومنها قصد الدلالة على الاختصاص ؛ كقوله : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به ( فاطر : 9 ) فإنه لما كان سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر دالا على القدرة الباهرة التي لا يقدر عليها غيره ، عدل عن لفظ الغيبة إلى التكلم ؛ لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه ، قال : " سقنا " و " أحيينا " .

ومنها قصد الاهتمام ، كقوله تعالى : ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ( فصلت : 11 - 12 ) فعدل عن الغيبة في " قضاهن " و " أوحى " إلى التكلم في " وزينا السماء الدنيا " للاهتمام بالإخبار عن نفسه ؛ فإنه تعالى جعل الكواكب في سماء الدنيا للزينة والحفظ ؛ وذلك لأن طائفة اعتقدت في النجوم أنها ليست في سماء الدنيا ، وأنها ليست [ ص: 395 ] حفظا ولا رجوما فعدل إلى التكلم والإخبار عن ذلك لكونه مهما من مهمات الاعتقاد ولتكذيب الفرقة المعتقدة بطلانه .

ومنها قصد التوبيخ ؛ كقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا ( مريم : 88 - 89 ) عدل عن الغيبة إلى الخطاب ؛ للدلالة على أن قائل مثل قولهم ينبغي أن يكون موبخا ومنكرا عليه ؛ ولما أراد توبيخهم على هذا أخبر عنه بالحضور فقال : لقد جئتم ( مريم : 89 ) لأن توبيخ الحاضر أبلغ في الإهانة له .

ومنه قوله تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم ( الأنبياء : 92 - 93 ) قال : وتقطعوا أمرهم بينهم ( الأنبياء : 93 ) دون " تقطعتم أمركم بينكم " كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ، ويقبح عندهم ما فعلوه ، ويوبخهم عليه قائلا : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله ، فجعلوا أمر دينهم به قطعا ؛ تمثيلا لاختلافهم في الدين .

فائدة

اختلف في قوله تعالى : إن الله لا يخلف الميعاد ( آل عمران : 9 ) بعد ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه ( آل عمران : 9 ) .

فقيل : إن الكلام تم عند قوله : لا ريب فيه ( آل عمران : 9 ) وهذا الذي بعده من مقول الله تصديقا لهم .

وقيل : بل هو من بقية كلامهم الأول على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ؛ كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم ( يونس : 22 ) .

فإن قلت : قد قال تعالى في آخر السورة : ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد [ ص: 396 ] ( آل عمران : 194 ) فلم عدل عن الخطاب هنا ؟ قلت : إنما جاء الالتفات في صدر السورة لأن المقام يقتضيه ، فإن الإلهية تقتضي الخير والشر ؛ لتنصف المظلومين من الظالمين ، فكان العدول إلى ذكر الاسم الأعظم أولى ، وأما قوله تعالى في آخر السورة : إنك لا تخلف الميعاد ( آل عمران : 194 ) فذلك المقام مقام الطلب للعبد من ربه أن ينعم عليه بفضله ، وأن يتجاوز عن سيئاته ، فلم يكن فيه ما يقتضي العدول عن الأصل المستمر .

التالي السابق


الخدمات العلمية