الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا .

وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا ، فإن مالكا رخص فيه وأجازه ، وبه قال الأوزاعي ، ولم يجز ذلك أبو حنيفة ، والشافعي . وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه ، لأن الذريعة موجودة في الجزاف ، وغير الجزاف . ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال : " كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام جزافا ، فبعث إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواء قبل أن نبيعه " . قال أبو عمر : وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف ، فقد روته جماعة وجوده عبيد الله بن عمر ، وغيره ، وهو مقدم في حفظ حديث نافع .

وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية ، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد ، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة ، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع بيع [ ص: 514 ] الرجل شيئا لا يملكه ، وهو المسمى عينة عند من يرى نقله من باب الذريعة إلى الربا . وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر .

وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه : أن يقول رجل لرجل : أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفها ، فيقول له : هذا لا يصلح ، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد ، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما ، وتلك السلعة قيمتها قريب مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها ، وفي المذهب في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره ، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب ( أعني : إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها ) .

وأما الدين بالدين ، فأجمع المسلمون على منعه . واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه ؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ، ولا سكنى دار ، ولا جارية تتواضع ، ويراه من باب الدين بالدين . وكان أشهب يجيز ذلك ويقول : ليس هذا من باب الدين بالدين ، وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه ، وهو قياس عند كثير من المالكيين ، وهو قول الشافعي ، وأبي حنيفة .

ومما أجازه مالك من هذا الباب وخالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم ، والثمن إلى العطاء ، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما قال : ولم ير الناس بذلك بأسا ، وكذلك كل ما يبتاع في الأسواق ، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه من الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه . وأما القمح وشبهه فلا ، فهذه هي أصول هذا الباب ، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم .

التالي السابق


الخدمات العلمية