الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال : والأنفاس ثلاثة : نفس في حين استتار مملوء من الكظم ، متعلق بالعلم ، إن تنفس تنفس بالأسف ، وإن نطق نطق بالحزن ، وعندي : هو متولد من وحشة الاستتار ، وهي الظلمة التي قالوا : إنها مقام .

فقوله : نفس في حين استتار ؛ أي : يكون له حال صادق ، وكشف صحيح ، فيستتر عنه بحكم الطبيعة والبشرية ولا بد ، فيضيق بذلك صدره ، ويمتلئ كظما بحجب ما كان فيه واستتاره لأسباب فاعلية وغائية ، سترد عليك إن شاء الله ، فإذا تنفس في هذه الحال فتنفسه تنفس الحزين المكروب .

قوله : " مملوء من الكظم " الكظم : هو الإمساك ، ومنه : كظم غيظه ، إذا تجرعه وحبسه ولم يخرجه .

قوله : " متعلق بالعلم " يريد : أن ذلك النفس متعلق بأحكام الظاهر لا بأحكام الحال ، وذلك هو البلاء الذي تقدم ذكر الشيخ له ، وهو بلاء العبد بين الاستجابة لداعي العلم وداعي الحال .

وإنما كان ذلك نفس مكظوم : لخلوه في هذه الحال من أحكام المحبة التي تهون الشدائد ، وتسهل الصعب ، وتحمل الكل ، وتعين على نوائب الحق وتعلقه بالعلم الذي هو داعي التفرق فإن كرب المحبة ممزوج بالحلاوة ، فإذا خلا من أحكامها إلى أحكام العلم فقد تلك الحلاوة ، واشتاق إلى ذلك الكرب ، كما قيل :


ويشكو المحبون الصبابة ليتني تحملت ما يلقون من بينهم وحدي     فكان لقلبي لذة الحب كلها
فلم يلقها قبلي محب ولا بعدي

قوله : إن تنفس تنفس بالأسف .

[ ص: 178 ] الأسف : الحزن ، كقوله تعالى عن يعقوب : ياأسفى على يوسف والأسف : الغضب ، كقوله تعالى : فلما آسفونا انتقمنا منهم وهو في هذا الموضع : الحزن على ما توارى عنه من مطلوبه ، أو من صدق حاله .

قوله : " وإن نطق نطق بالحزن " يعني : أن هذا المتنفس إن نطق بما يدل على الحزن على ما توارى عنه ، فمصدر تنفسه ونطقه حزنه على ما حجب عنه .

قوله : : وعندي : أنه يتولد من وحشة الاستتار والحجب .

وكأن الاستتار السبب فيتولد السبب .

يريد : أن هذا الأسف وإن أضيف إلى الاستتار والحجاب فتولده : إنما هو من الوحشة التي سببها الاستتار من تلك الوحشة المتولدة من الاستتار ، وهذا صحيح ؛ فإنه لما كان مطلوبه مشاهدا له ، وحال محبته وأحكامها قائما به ، كان نصيبه من الأنس على قدر ذلك ، فإنه لما توارى عنه مطلوبه وأحكام محبته استوحش لذلك ، فتولد الحزن من تلك الوحشة .

وبعد ، فالحزن يتولد من مفارقة المحبوب ، ليس له سبب سواه ، وإن تولد من حصول مكروه ، فذلك المكروه : إنما كان كذلك لما فات به من المحبوب ، فلا حزن إذا ولا هم ولا غم ، ولا أذى ولا كرب إلا في مفارقة المحبوب ، ولهذا كان حزن الفقر والمرض والألم والجهل والخمول والضيق وسوء الحال ونحو ذلك : على فراق المحبوب من المال والوجد والعافية ، والعلم والسعة وحسن الحال ، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى مفارقة المشتهيات من أعظم العقوبات ، فقال تعالى : وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب فالفرح والسرور بالظفر بالمحبوب ، والهم والغم والحزن والأسف بفوات المحبوب ، فأطيب العيش عيش المحب الواصل إلى محبوبه ، وأمر العيش عيش من حيل بينه وبين محبوبه .

والاستتار المذكور لا يكون إلا بعد كشف وعيان ، والرب تعالى يستر عنهم ما يستره رحمة بهم ، ولطفا بضعيفهم ، إذ لو دام له حال الكشف لمحقه ، بل رحمة به من ربه أن رده إلى أحكام البشرية ، ومقتضى الطبيعة .

[ ص: 179 ] وأيضا ليتزايد طلبه ، ويقوى شوقه ، فإنه لو دامت له تلك الحال لألفها واعتادها ، ولم يقع منه موقع الماء من ذي الغلة الصادي ، ولا موقع الأمن من الخائف ، ولا موقع الوصال من المهجور ، فالرب سبحانه واراها عنه ليكمل فرحه ولذته وسروره بها .

وأيضا فليعرفه سبحانه قدر نعمته بما أعطاه وخلع عليه ، فإنه لما ذاق مرارة الفقد عرف حلاوة الوجود ، فإن الأشياء تتبين بأضدادها .

وأيضا فليعرفه فقره وحاجته وضرورته إلى ربه ، وأنه غير مستغن عن فضله وبره طرفة عين ، وأنه إن انقطع عنه إمداده فسد بالكلية .

وأيضا فليعرفه أن ذلك الفضل والعطاء ليس لسبب من العبد ، وأنه عاجز عن تحصيلها بكسب واختيار ، وأنها مجرد موهبة وصدقة تصدق الله بها عليه لا يبلغها عمله ولا ينالها سعيه .

وأيضا فليعرفه عزه في منعه ، وبره في عطائه ، وكرمه وجوده في عوده عليه بما حجب عنه ، فينفتح على قلبه من معرفة الأسماء والصفات بسبب هذا الاستتار والكشف بعده أمور غريبة عجيبة ، يعرفها الذائق لها ، وينكرها من ليس من أهلها .

وأيضا فإن الطبيعة والنفس لم يموتا ، ولم يعدما بالكلية ، ولولا ذلك لما قام سوق الامتحان والتكليف في هذا العالم ، بل قهرا بسلطان العلم والمعرفة والإيمان والمحبة ، والمقهور المغلوب لا بد أن يتحرك أحيانا وإن قلت ولكن حركة أسير مقهور بعد أن كانت حركته حركة أمير مسلط .

فمن تمام إحسان الرب إلى عبده ، وتعريفه قدر نعمته أن أراه في الأعيان ما كان حاكما عليه قاهرا له ، وقد تقاضى ما كان يتقاضاه منه أولا ، فحينئذ يستغيث العبد بربه ووليه ومالك أمره كله : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك .

وأيضا فإنه يزيل من قلبه آفة الركون إلى نفسه ، أو عمله أو حاله ، كما قيل : إن ركنت إلى العلم أنسيناكه ، وإن ركنت إلى الحال : سلبناك إياه ، وإن ركنت إلى المعرفة : حجبناها عنك ، وإن ركنت إلى قلبك : أفسدناه عليك ، فلا يركن العبد إلى شيء سوى الله ألبتة ، ومتى وجد قلبه ركونا إلى غيره : فليعلم أنه قد أحيل على مفلس ، بل معدم ، وأنه قد فتح له الباب مكرا ، فليحذر ولوجه ، والله المستعان .

[ ص: 180 ] قوله : وهي الظلمة التي قالوا : إنها مقام .

يعني : أن وحشة الاستتار ظلمة . وقد قال قوم : إنها مقام .

ووجهه : أن الرب سبحانه يقيم عبده بحكمته فيها ، لما ذكرناه من الحكم والفوائد ، وغيرها مما لم نذكره .

فبهذا الاعتبار تكون مقاما ، ولكن صاحب هذا المقام : أنفاسه أنفاس حزن وأسف ، وهلاك وتلف ، لما حجب عنه من المقام الذي كان فيه .

والشيخ كأنه لا يرى ذلك مقاما ، فإن المقامات هي منازل في طريق المطلوب فكل أمر أقيم فيه السالك من حاله الذي يقدمه إلى مطلوبه : فهو مقام ، وأما وحشة الاستتار : فهي تأخر في الحقيقة لا تقدم ، فكيف تسمى مقاما ؟ بل هي ضد المقام .

ومما يدل على أن وحشة الاستتار ليست مقاما : أن كل مقام فهو تعلق بالحق سبحانه على وجه الثبوت ، وحقيقته : بأن يكون العبد بالمقيم لا بالمقام .

وأما حال الاستتار : فهو حال انقطاع عن ذلك التعلق المذكور .

والتحقيق في ذلك : أن له وجهين ؛ هو من أحدهما : ظلمة ووحشة . ومن الثاني : مقام ، فهو باعتبار الحال وباعتبار نفسه ليس مقاما ، وباعتبار المآل وما يترتب عليه وما فيه من تلك الحكم والفوائد المذكورة : فهو مقام ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية