الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء الشهر وقدوم الحاج ، لأنه بيع غرر من غير حاجة فلم يجز ، ولا يجوز بيع المنابذة ، وهو أن يقول إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ، ولا بيع الملامسة وهو أن يمس الثوب بيده ولا ينشره ، وإذا مسه فقد وجب البيع ، لما روى أبو سعيد الخدري قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين المنابذة والملامسة } والمنابذة أن يقول : إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع ، والملامسة أن يمسه بيده ولا ينشره ، فإذا مسه فقد وجب البيع ولأنه إذا علق وجوب البيع على نبذ الثوب فقد علق البيع على شرط ، وذلك لا يجوز ، وإذا لم ينشر الثوب فقد باع مجهولا وذلك غرر من غير حاجة فلم يجز . ولا يجوز بيع الحصى ، وهو أن يقول : بعتك ما وقع عليه الحصى من ثوب أو أرض ، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الحصى } ولأنه بيع مجهول من غير حاجة فلم يجز ، ولا يجوز بيع حبل الحبلة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة } واختلف في تأويله ، فقال الشافعي رضي الله عنه : هو بيع السلعة بثمن إلى أن تلد الناقة ويلد حملها ، وقال أبو عبيد هو بيع ما يلد حمل الناقة ، فإن كان على ما قال الشافعي رحمه الله فهو بيع بثمن إلى أجل مجهول ، وقد بينا أن ذلك لا يجوز . وإن كان على ما قال أبو عبيد فهو بيع معدوم ومجهول ، وذلك لا يجوز ولا يجوز بيعتان في بيعة ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة } فيحتمل أن يكون المراد به أن يقول : بعتك هذا بألف نقدا أو بألفين نسيئة فلا يجوز للخبر ، ولأنه لم يعقد على ثمن معلوم . ويحتمل أن يكون المراد به أن يقول : بعتك هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف ، [ ص: 415 ] فلا يصح للخبر ، ولأنه شرط في عقد ، وذلك لا يصح فإذا سقط وجب أن يضاف إلى ثمن السلعة بإزاء ما سقط من الشرط وذلك مجهول ، فإذا أضيف إلى الثمن صار مجهولا فبطل ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث أبي سعيد فرواه البخاري ومسلم مع تفسيره وأما حديث النهي عن بيع الحصاة فرواه مسلم في صحيحه من رواية أبي هريرة ( وأما ) حديث ابن عمر في حبل الحبلة فرواه البخاري ومسلم ( وأما ) حديث أبي هريرة في النهي عن بيعتين في بيعة فهو صحيح سبق بيانه قريبا في الفصل الذي قبل هذا وبسطنا القول فيه ( وقوله : ) وهو أن يمس هو - بفتح الياء والميم - ويجوز ضم الميم في لغة قليلة ، وننكر على المصنف قوله وروي في حديث النهي عن بيع الحصاة . فأتى به بصيغة التمريض الموضوعة للضعيف مع أنه حديث صحيح كما أوضحناه . وقوله : ( حبل الحبلة ) هو - بفتح الباء - فيهما ، قال أهل اللغة : الحبلة هنا جمع حابل كظالم وظلمة ، وفاجر وفجرة ، وكاتب وكتبة ، وقال الأخفش يقال : حبلت المرأة فهي حابل ، ونسوة حبلة ، وقال ابن الأنباري وغيره : الهاء في الحبلة للمبالغة واتفق أهل اللغة على أن الحبل مختص بالآدميات ، وإنما يقال في غيرهن : الحمل ، يقال حملت المرأة ولدا وحبلت بولد ، وحملت الشاة - بالميم - وكذا البقرة والناقة ونحوها ، قال أبو عبيد : لا يقال لشيء من الحيوان : حبل غير الآدمي إلا ما جاء في هذا الحديث . واختلف العلماء في تفسيره على قولين ذكرهما المصنف فالذي حكاه عن الشافعي ، وهو تفسير ابن عمر راوي الحديث ثبت عنه في الصحيحين وبه قال مالك وآخرون والذي حكاه عن أبي عبيد ، قاله أيضا أبو عبيدة معمر بن المثنى شيخ أبي عبيد ، وقاله أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو أقرب إلى اللغة ، ولكن المذكور عن الشافعي [ ص: 416 ] وموافقيه أقوى لأنه تفسير الراوي وهو أعرف ، وعلى التقديرين البيع باطل بالإجماع ، لما ذكره المصنف واعلم أن أبا عبيد الذي ذكره المصنف هنا في التنبيه هو بإسقاط الهاء في آخره وهو القاسم بن سلام الإمام المشهور في علوم كثيرة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      ( وأما ) بيع المنابذة ففيه تأويلات ( أحدها ) أن يجعل نفس النبذ بيعا قاله الشافعي وغيره ، وهو بيع باطل ، قال الرافعي : قال الأصحاب : ويجيء فيه الخلاف في المعاطاة فإن المنابذة مع قرينة البيع هي نفس المعاطاة ( والثاني ) أن يقول : بعتك على أني إذا نبذته إليك انقطع الخيار ، ولزم البيع ، وهو بيع باطل ( والثالث ) أن المراد بنبذ الحصاة الذي سنذكره إن شاء الله تعالى .

                                      ( وأما ) بيع الملامسة ففيه تأويلات ( أحدها ) تأويل الشافعي وجمهور الأصحاب ، وهو أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستلم ، فيقول صاحبه : بعتكه بكذا ، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ، ولا خيار لك إذا رأيته ( والثاني ) أن يجعلا نفس اللمس بيعا ، فيقول إذا لمسته فهو بيع لك ( والثالث ) أن يبيعه شيئا على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس وغيره ، ولزم البيع ، وهذا البيع باطل على التأويلات كلها ، وفي الأول احتمال لإمام الحرمين ، وقال صاحب التقريب : تفريعا على صحة نفي خيار الرؤية قال : وعلى التأويل الثاني له حكم المعاطاة ( والمذهب ) الجزم ببطلانه على التأويلات كلها .

                                      ( وأما ) بيع الحصاة ففيه تأويلات ( أحدها ) أن يقول بعتك من هذه الأثواب ما تقع عليه الحصاة التي أرميها ، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى حيث تنتهي إليه هذه الحصاة ( والثاني ) أن يقول بعتكه على أنك بالخيار إلى أن أرمي الحصاة ( والثالث ) أن يجعلا نفس الرمي بيعا وهو إذا رميت هذه الحصاة فهذا الثوب مبيع لك بكذا ، والبيع باطل على جميع [ ص: 417 ] التأويلات ( وأما ) البيعتان في بيعة ففيه هذان التأويلان اللذان ذكرهما المصنف ، وقد نص الشافعي عليهما في مختصر المزني ، وقد قدمناهما مع كلام الأئمة فيه ، وظاهر كلام المصنف يقتضي أن التأويلين لنفسه ، وليس كذلك ، والله سبحانه أعلم .

                                      ( فرع ) مختصر ما ذكره المصنف في هذا الفصل أن لا يجوز بيعتان في بيعة ، ولا بيع حبل الحبلة ولا بيع الحصاة والمنابذة والملامسة ، ولا تعليق البيع على شرط مستقبل بأن يقول : إذا جاء المطر أو قدم الحاج أو إذا جاء زيد أو إذا غربت الشمس أو ما أشبه هذا فقد بعتكه ، وهذا عقد باطل بلا خلاف للحديث الصحيح في النهي عن الغرر .




                                      الخدمات العلمية