الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب صفة التيمم

قال الله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه فاختلف الفقهاء في صفته ، فقال أصحابنا : ( التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ) فقالوا : ( يضرب بيديه على الصعيد يحركهما فيقبل بهما ويدبر على الصعيد ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ، ثم يعيد إلى الصعيد كفيه جميعا فيقبل بهما ويدبر ويرفعهما فينفضهما ثم يمسح بكل كف ظهر ذراعه الأخرى وباطنها إلى المرفقين ) . واتفق مالك والثوري والليث والشافعي أنه ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ؛ وروي مثله عن جابر وابن عمر . وحكى بعض أصحاب مالك أنه إن تيمم بضربة واحدة أجزأه ، وحكي عن مالك أيضا أنه يتيمم إلى المرفقين فإن تيمم إلى الكوعين لم يعد . وقال الأوزاعي : ( تجزي ضربة واحدة للوجه والكوعين ) ، وروي نحوه عن عطاء . وقال الزهري : ( يمسح يديه إلى الإبط ) .

وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح : ( يتيمم بضربتين يمسح بكل واحدة منها وجهه وذراعيه ومرفقيه ) . وقال أبو جعفر الطحاوي : ( لم نجد عن غيرهما أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه وذراعيه ومرفقيه ) . والحجة لقول أصحابنا ما روى ابن عمر وابن عباس والأسلع عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم : ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين . واختلفت الرواية عن عمار ، فروى عنه عبد الرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم : ضربة واحدة للوجه واليدين .

وروى عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم : ضربتين وهذا أولى ؛ لأنه زائد وخبر الزائد أولى . وأيضا فكما أنه لا يجوز في الوضوء الاكتفاء بماء واحد لعضوين بل عليه تجديد الماء لكل عضو ، كذلك الحكم في التيمم ؛ لأنهما طهارتان [ ص: 28 ] وإن كانت إحداهما مسحا والأخرى غسلا ، ألا ترى أنه يحتاج إلى تجديد الماء لكل رجل في المسح على الخفين وإن لم يكن غسلا ؟ وإنما قلنا إن التيمم إلى المرفقين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الأسلع ، ذكرا فيه جميعا أن التيمم إلى المرفقين . واختلف عن عمار فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم ، فروى الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أوفوا التيمم إلى المرفقين ، وروى غيره عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم فأمرني بضربة واحدة للوجه والكفين . ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن زر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار ، وقال فيهما : ( ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه إلى المرفقين ) .

وروى سلمة عن أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار : أنه تمعك في التراب في الجنابة ، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع . وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عمار : أنهم مسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد ضربة واحدة للوجه وضربة لليدين إلى المناكب والآباط . فلما اختلفت أحاديث عمار هذا الاختلاف واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم ، ومع ذلك لم يعزه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حكى فعل نفسه ، لم يثبت التيمم إلى المناكب ؛ وإن كان له وجه في الاحتمال وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه على وجه المبالغة فيه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنكم الغر المحجلون من آثار الوضوء ، فمن أراد أن يطول غرته فليفعل فقال أبو هريرة : إني أحب أن أطيل غرتي . ثم بقي من أخبار عمار مما عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوجه والكفان ونصف الذراع إلى المرفقين ، فكانت رواية من روى " إلى المرفقين " أولى لوجوه :

أحدها أنه زائد على روايات الآخرين ، وخبر الزائد أولى .

والثاني : أن الآية تقتضي اليدين إلى المنكبين لدخولهما تحت الاسم ، فلا يخرج شيء منه إلا بدليل ، وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين فبقي حكمه إلى المرفقين .

والثالث : أن في حديث ابن عمر والأسلع التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهما في روايته ما ، وقول الزهري : ( يمسح يديه إلى الإبط ) قول شاذ ، ومع ذلك لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح : ( أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه ويديه ) فخلاف [ ص: 29 ] ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار التي ذكر فيها صفة التيمم ؛ لأن الذي روي في بعضها : ضربتان : ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فلم يجعل ما للوجه لليدين وما لليدين للوجه ، وفي بعضها : ( ضربة واحدة لهما ) فقولهما خارج عن حكم الخبرين جميعا ؛ وهو مع ذلك خلاف الأصول ؛ لأن التيمم مسح ، فليس تكراره بمسنون كالمسح على الخفين ومسح الرأس ، ولو كان التكرار مسنونا فيه لكان ثلاثا كالأعضاء المغسولة . وإنما قال أصحابنا في صفة التيمم ( إنه يضع يديه على الصعيد يقبل بهما ويدبر ) ليتخلل أصابعه ويصيب جميعها ، وإنما قالوا : ( ينفضهما ) لما روى الأعمش عن سفيان عن أبي موسى أن عمارا قال ، وذكر قصة التيمم ، فقال : إنه صلى الله عليه وسلم قال : إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بيده على الأرض ؛ وفي حديث عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه ضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ، وفي حديث الأسلع : أنه نفضهما في كل مرة والنفخ والنفض جميعا إنما هو لإزالة التراب عن يده ، وهذا يدل على أنه ليس المقصد فيه وصول التراب إلى وجهه ولا حصوله فيه ؛ لأنه لو كان المقصد حصول التراب في العضو لما نفضه .

التالي السابق


الخدمات العلمية