الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 524 ] الباب الرابع في بيوع الشروط والثنيا

[ 1 - بيوع الشروط ]

وهذه البيوع الفساد الذي يكون فيها هو راجع إلى الفساد الذي يكون من قبل الغرر ، ولكن لما تضمنها النص وجب أن تجعل قسما من أقسام البيوع الفاسدة على حدة .

والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث : أحدها : حديث جابر قال : " ابتاع مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة " وهذا الحديث في الصحيح . والحديث الثاني : حديث بريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط " ، والحديث متفق على صحته . والثالث : حديث جابر قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، والمعاومة ، والثنيا ، ورخص في العرايا " ، وهو أيضا في الصحيح خرجه مسلم .

ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط " ، فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع ، وشرط ، فقال قوم : البيع فاسد ، والشرط جائز ، وممن قال بهذا القول الشافعي ، وأبو حنيفة ; وقال قوم : البيع جائز ، والشرط جائز ، وممن قال بهذا القول ابن أبي شبرمة ; وقال قوم : البيع جائز والشرط باطل ، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى ; وقال أحمد : البيع جائز مع شرط واحد ، وأما مع شرطين فلا .

فمن أبطل البيع ، والشرط أخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط ، ولعموم نهيه عن الثنيا; ومن أجازهما جميعا أخذ بحديث عمر الذي ذكر فيه البيع والشرط; ومن أجاز البيع وأبطل الشرط أخذ بعموم حديث بريرة ; ومن لم يجز الشرطين وأجاز الواحد احتج بحديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يحل سلف وبيع ، ولا يجوز شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم تضمن ، ولا بيع ما ليس هو عندك " .

وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام : شروط تبطل هي والبيع معا; وشروط تجوز هي والبيع معا; وشروط تبطل ويثبت البيع; وقد يظن أن عنده قسما رابعا ، وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع ، وإن تركه جاز البيع ، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير ، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء ، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا ، والغرر ، وإلى قلته ، وإلى التوسط بين ذلك ، أو إلى ما يفيد نقصا في الملك ، فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط ، وما كان قليلا أجازه وأجاز الشرط فيها ، وما كان متوسطا أبطل الشرط ، وأجاز البيع ، ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب ، إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها ، والجمع عندهم أحسن من الترجيح ، [ ص: 525 ] وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة ، وأحد من له ذلك جدي ، والمازري ، والباجي ، وتفصيله في ذلك أنه قال : إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين : أحدهما : أن يشترطه بعد انقضاء الملك ، مثل من يبيع الأمة أو العبد ، ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري ، فمثل هذا قالوا : يصح فيه العقد ، ويبطل الشرط لحديث بريرة .

والقسم الثاني : أن يشترط عليه شرطا يقع في مدة الملك ، وهذا قالوا : ينقسم إلى ثلاثة أقسام : إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه; وإما أن يشترط على المشتري منعا من تصرف عام أو خاص; وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع ، وهذا أيضا ينقسم إلى قسمين : أحدهما أن يكون معنى من معاني البر . والثاني أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء . فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيرة لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع ، مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر ، وقيل : السنة ، فذلك جائز على حديث جابر . وإما أن يشترط منعا من تصرف خاص ، أو عام ، فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا ، ومثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أو لا يبيعها ، وإما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق ، فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده ، وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه . وبقول مالك في إجازة البيع بشرط العتق المعجل قال الشافعي على أن من قوله منع بيع وشرط ، وحديث جابر عنده مضطرب اللفظ ، لأن في بعض رواياته " أنه باعه واشترط ظهره إلى المدينة " ، وفي بعضها أنه أعاره ظهره إلى المدينة . ومالك رأى هذا من باب الغرر اليسير فأجازه في المدة القليلة ولم يجزه في الكثيرة . وأما أبو حنيفة فعلى أصله في منع ذلك . وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها ، فذلك لا يجوز عند مالك ، وقيل عنه البيع مفسوخ ، وقيل بل يبطل الشرط فقط . وأما من قال له البائع : متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك ، لأنه يكون مترددا بين البيع والسلف; إن جاء بالثمن كان سلفا ، وإن لم يجئ كان بيعا .

واختلف في المذهب هل يجوز له ذلك في الإقالة أم لا ؟ فمن رأى أن الإقالة بيع فسخها عنده ما يفسخ سائر البيوع; ومن رأى أنها فسخ فرق بينها وبين البيوع .

واختلف أيضا فيمن باع شيئا بشرط أن لا يبيعه حتى ينتصف من الثمن ، فقيل عن مالك يجوز ذلك لأن حكمه حكم الرهن ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن هو المبيع ، أو غيره; وقيل عن ابن القاسم : لا يجوز ذلك ، لأنه شرط يمنع المبتاع التصرف في المبيع بالمدة البعيدة التي لا يجوز للبائع اشتراط المنفعة فيها ، فوجب أن يمنع صحة البيع ، ولذلك قال ابن المواز إنه جائز في الأمد القصير .

ومن المسموع في هذا الباب نهيه صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف اتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة . واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض ، فمنعه أبو حنيفة ، والشافعي ، وسائر العلماء ، وأجازه مالك ، وأصحابه إلا [ ص: 526 ] محمد بن عبد الحكم ، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور; وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي عنه مع أن الثمن يكون في المبيع مجهولا لاقتران السلف به . وقد روي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي ، فقال له : ما الفرق بين السلف والبيع ، وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر فلما عقد البيع قال : أنا أدع الزق ، قال : وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع ، فأجاب إسماعيل عن هذا بجواب لا تقوم به حجة ، وهو أن قال له : الفرق بينهما أن مشترط السلف هو مخير في تركه ، أو عدم تركه ، وليس كذلك مسألة زق الخمر ، وهذا الجواب هو نفس الشيء الذي طولب فيه بالفرق ، وذلك أنه يقال له : لم يكن هنا مخيرا ، ولم يكن هنالك مخيرا في أن يترك الزق ، ويصح البيع ، والأشبه أن يقال : إن التحريم هاهنا لم يكن لشيء محرم بعينه وهو السلف ، لأن السلف مباح ، وإنما وقع التحريم من أجل الاقتران ( أعني : اقتران البيع به ) ، وكذلك البيع في نفسه جائز ، وإنما امتنع من قبل اقتران الشرط به ، وهنالك إنما امتنع البيع من أجل اقتران شيء محرم لعينه به ، لا أنه شيء محرم من قبل الشرط .

ونكتة المسألة هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا يرتفع ، كما لا يرتفع الفساد اللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرم العين به ؟ وهذا أيضا ينبني على أصل آخر هو هل هذا الفساد حكمي ، أو معقول ؟ فإن قلنا : حكمي لم يرتفع بارتفاع الشرط ، وإن قلنا : معقول ارتفع بارتفاع الشرط; فمالك رآه معقولا ، والجمهور رأوه غير معقول ، والفساد الذي يوجد في بيوع الربا والغرر هو أكثر ذلك حكمي ، لذلك ليس ينعقد عندهم أصلا ، وإن ترك الربا بعد البيع ، أو ارتفع الغرر . واختلفوا في حكمه إذا وقع على ما سيأتي في أحكام البيوع الفاسدة .

ومن هذا الباب بيع العربان : فجمهور علماء الأمصار على أنه غير جائز; وحكي عن قوم من التابعين أنهم أجازوه ، منهم مجاهد ، وابن سيرين ، ونافع بن الحارث ، وزيد بن أسلم ، وصورته : أن يشتري الرجل شيئا فيدفع إلى المبتاع من ثمن ذلك المبيع شيئا على أنه إن نفذ البيع بينهما كان ذلك المدفوع من ثمن السلعة ، وإن لم ينفذ ترك المشتري بذلك الجزء من الثمن عند البائع ولم يطالبه به; وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة ، وأكل المال بغير عوض ، وكان زيد يقول : أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقال أهل الحديث : ذلك غير معروف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية