الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وضع الخبر موضع الطلب

أي في الأمر والنهي

كقوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ( البقرة : 233 ) .

والمطلقات يتربصن ( البقرة : 228 ) .

سلام عليكم ( الرعد : 24 ) .

اليوم يغفر الله لكم ( يوسف : 92 ) .

وقوله : فكفارته إطعام عشرة مساكين . . . ( المائدة : 89 ) الآية ، ولهذا جعلها العلماء من أمثلة الواجب .

" فلا رفث ولا فسوق " ( البقرة : 197 ) على قراءة الرفع أي : لا ترفثوا ولا تفسقوا .

وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله ( البقرة : 272 ) قالوا : هو خبر ، وتأويله : نهي ، أي : لا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله ، كقوله : لا يمسه إلا المطهرون ( الواقعة : 79 ) وكقوله : لا تضار والدة بولدها ( البقرة : 233 ) على قراءة الرفع . وقيل : إنه نهي مجزوم ، أعني قوله : لا يمسه ( الواقعة : 79 ) ولكن ضمت إتباعا للضمير ؛ كقوله - صلى الله عليه وسلم - : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم .

[ ص: 410 ] وقوله : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ( البقرة : 83 ) ضمن ( لا تعبدون ) معنى ( لا تعبدوا ) بدليل قوله بعده : وقولوا للناس حسنا ( البقرة : 83 ) وبه يزول الإشكال في عطف الإنشاء على الخبر . لكن إن كان " حسنا " معمولا لـ " أحسنوا " فعطف " قولوا " عليه أولى ؛ لاتفاقهما لفظا ومعنى ، وإن كان التقدير " ويحسنون " فهو الذي قبله ، والعطف على القريب أولى ، وقيل : إن ( لا تعبدون ) أبلغ من صريح النهي ؛ لما فيه من إيهام أن المنهي يسارع إلى الانتهاء ، فهو مخبر عنه .

وكذا قوله : وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ( البقرة : 84 ) في موضع " لا تسفكوا " .

وقوله في سورة الصف وبشر المؤمنين ( الآية : 13 ) عطفا على قوله : تؤمنون بالله ورسوله ( الصف : 11 ) ولهذا جزم الجواب .

وقوله : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ( يس : 55 ) إلى قوله : وامتازوا اليوم ( يس : 59 ) فإن المقام يشتمل على تضمين إن أصحاب الجنة اليوم ( يس : 55 ) معنى الطلب ، بدليل ما قبله : فاليوم لا تظلم نفس شيئا ( يس : 54 ) فإنه كلام وقت الحشر لوروده معطوفا بالفاء على قوله : إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون ( يس : 53 ) وعام لجميع الخلق لعموم قوله : لا تظلم نفس شيئا ( يس : 54 ) وإن الخطاب الوارد بعده على سبيل الالتفات ، وهو قوله : ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ( يس : 54 ) خطاب عام لأهل المحشر ، فيكون قوله : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ( يس : 55 ) [ ص: 411 ] إلى قوله : أيها المجرمون ( يس : 59 ) مقيدا بهذا الخطاب لكونه تفصيلا لما أجمله : ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون ( يس : 54 ) وإن التقدير أن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر ، ثم جاء في التفسير أن قوله هذا : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون ( يس : 55 ) يقال لهم حين يساق بهم إلى الجنة ، بتنزيل ما هو للتكوين منزلة الكائن ، أي : إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يئول حالهم إلى أسعد حال ، والتقدير حينئذ : ليمتازوا عنكم إلى الجنة " هكذا قرره السكاكي في " المفتاح " .

قيل : وفيه نظر ؛ لأنها إذا كانت طلبية ومعناها أمر المؤمنين بالذهاب إلى الجنة ، فليكن الخطاب معهم لا مع أهل المحشر ؛ لأن الخطاب في التخيير هنا هو المأمور فيها .

ولهذا قال بعضهم : إن تضمين أصحاب أهل الجنة للطلب ليس المراد منه أن الجملة نفسها طلبية ، بل معناه أن يقدر جملة إنشائية بعدها ، بخلاف قوله : وقولوا للناس حسنا ( البقرة : 83 ) .

ومنه قوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ( الصف : 11 - 12 ) فإنه يقال : كيف جاء الجزم في جواب الخبر ؟ وجوابه أنه لما كان في معنى الأمر جاز ذلك ؛ إذ المعنى : آمنوا وجاهدوا .

وقال ابن جني : لا يكون : يغفر لكم ( الصف : 12 ) جوابا لـ ( هل أدلكم ) ( الصف : 10 ) وإن كان أبو العباس قد قاله ؛ قال أبو علي : لأن المغفرة تحصل بالإيمان لا بالدلالة . انتهى . وقد يقال : الدلالة سبب السبب .

إذا علمت هذا فإنما يجيء الأمر بلفظ الخبر الحاصل تحقيقا لثبوته ، وأنه مما ينبغي أن يكون واقعا ولا بد ، وهذا هو المشهور .

[ ص: 412 ] وفيه طريقة أخرى نقلت عن القاضي أبي بكر وغيره ، وهي أن هذا خبر حقيقة غير مصروف عن جهة الخبرية ، ولكنه خبر عن حكم الله وشرعه ليس خبرا عن الواقع ، حتى يلزم ما ذكره من الإشكال ، وهو احتمال عدم وقوع مخبره ؛ فإن هذا إنما يلزم الخبر عن الواقع ؛ أما الخبر عن الحكم فلا ؛ لأنه لا يقع خلافه أصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية