الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في كري الأنهار قال رضي الله عنه : الأنهار ثلاثة : نهر غير مملوك لأحد ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد كالفرات ونحوه ، [ ص: 82 ] ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة إلا أنه عام . ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة وهو خاص . والفاصل بينهما استحقاق الشفة به وعدمه . فالأول كريه على السلطان من بيت مال المسلمين ; لأن منفعة الكري لهم فتكون مؤنته عليهم ، ويصرف إليه من مؤنة الخراج والجزية دون العشور والصدقات ; لأن الثاني للفقراء والأول للنوائب ، فإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على كريه إحياء لمصلحة العامة إذ هم لا يقيمونها بأنفسهم ، وفي مثله قال عمر رضي الله عنه : : لو تركتم لبعتم أولادكم ، إلا أنه يخرج له من كان يطيقه ويجعل مؤنته على المياسير الذين لا يطيقونه بأنفسهم .

وأما الثاني فكريه على أهله على بيت المال ; لأن الحق لهم والمنفعة تعود إليهم على الخصوص والخلوص ، ومن أبى منهم يجبر على كريه دفعا للضرر العام وهو ضرر بقية الشركاء وضرر الآبي خاص ويقابله عوض فلا يعارض به ; ولو أرادوا أن يحصنوه خيفة الانبثاق وفيه ضرر عام كغرق الأراضي وفساد الطرق يجبر الآبي ، وإلا فلا لأنه موهوم بخلاف الكري ; لأنه معلوم . وأما الثالث وهو الخاص من كل وجه فكريه على أهله لما بينا ثم قيل يجبر الآبي كما في الثاني . وقيل لا يجبر ; لأن كل واحد من الضررين خاص . ويمكن دفعه عنهم بالرجوع على الآبي بما أنفقوا فيه إذا كان بأمر القاضي فاستوت الجهتان ، بخلاف ما تقدم ، ولا يجبر لحق [ ص: 83 ] الشفة كما إذا امتنعوا جميعا ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه ، فإذا جاوز أرض رجل رفع عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله . وقالا : هي عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأرضين ; لأن لصاحب الأعلى حقا في الأسفل لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه . وله أن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي ، وقد حصل لصاحب الأعلى فلا يلزمه إنفاع غيره ، وليس على صاحب السيل عمارته كما إذا كان له مسيل على سطح غيره ، كيف وأنه يمكنه دفع الماء عن أرضه بسده من أعلاه ، ثم إنما يرفع عنه إذا جاوز أرضه كما ذكرناه ، وقيل إذا جاوز فوهة نهره ، وهو مروي عن محمد رحمه الله .

والأول أصح ; لأن له رأيا في اتخاذ الفوهة من أعلاه وأسفله ، فإذا جاوز الكري أرضه حتى سقطت عنه مؤنته قيل له أن يفتح الماء ليسقي أرضه لانتهاء الكري في حقه ، وقيل ليس له ذلك ما لم يفرغ شركاؤه نفيا لاختصاصه ، وليس على أهل الشفة من الكري شيء ; لأنهم لا يحصون ولأنهم أتباع .

التالي السابق


( فصل في كري الأنهار ) قال جماعة من الشراح : لما فرغ من ذكر مسائل الشرب احتاج إلى ذكر مؤنة كري الأنهار التي كان الشرب منها ، ولكن لما كانت مؤنة الكري أمرا زائدا على النهر إذ النهر يوجد بدون مؤنة الكري كالنهر العام أخر ذكره انتهى . أقول : فيه كلام . [ ص: 82 ] أما أولا فلأن المصنف لم يفرغ من ذكر مسائل الشرب ، بل هو في أثناء ذكر مسائلها بعد ، كيف وقد قال فيما قبل فصول في مسائل الشرب ، وهو الآن شرع في الفصل الثاني من تلك الفصول . وأما ثانيا فلأن النهر العام أيضا لا يوجد بدون مؤنة الكري ، بل له مؤنة من بيت مال المسلمين كما صرح به المصنف فيما بعد حيث قال : فالأول كريه على السلطان من بيت مال المسلمين ; لأن منفعة الكري لهم فيكون مؤنته عليهم . لا يقال : مرادهم أن النهر العام يوجد بدون مؤنة الكري على أهله لا أنه يوجد بدونها مطلقا يشير إليه قول المصنف فيما بعد : وأما الثاني فكريه على أهله لا على بيت المال فلا يضرهم وجوب مؤنة النهر العام على السلطان لأنا نقول : مؤنة النهر العام وإن كانت على السلطان في الظاهر حيث كان صرفها من يده إلا أنها في الحقيقة على أهلها أيضا ، وهم عامة المسلمين ، يرشد إليه قول المصنف : لأن منفعة الكري لهم فتكون مؤنته عليهم في تعليل قوله فالأول كريه على السلطان من بيت مال المسلمين : ولئن سلم أن مؤنة النهر العام على السلطان نفسه فلا يجدي نفعا أيضا ، إذ لا يلزم حينئذ أن يوجد النهر بدون مؤنة [ ص: 83 ] الكري مطلقا فلا يثبت كون مؤنة الكري أمرا زائدا على النهر ، فلا يتم وجه التأخير الذي ذكروه هاهنا .

ثم أقول : ما ذكروه هاهنا مع كونه غير تام في نفسه مستغنى عنه بالكلية بما ذكروه من قبل عند قول المصنف فصول في مسائل الشرب : فصل في المياه ، فإنهم قالوا هناك : لما فرغ من إحياء الموات ذكر ما يتعلق به من مسائل الشرب ; لأن إحياء الموات يحتاج إليه ، وقدم فصل المياه على فصل الكري ; لأن المقصود هو الماء انتهى فتأمل ( قوله وله أن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي ، وقد حصل لصاحب الأعلى فلا يلزمه إنفاع غيره ) قال صاحب النهاية : والصواب نفع غيره ; لأن الإنفاع في معنى النفع غير مسموع ، كذا وجدت بخط الإمام تاج الدين الزرنوجي ، إلى هنا كلامه واقتفى أثره جماعة من الشراح ولم يزيدوا عن ذلك شيئا . وقال صاحب الغاية : استعمل الإنفاع في معنى النفع وهو ضد الضرر ، ولم يسمع ذلك في قوانين اللغة وجاء أرجعته في لغة هذيل بمعنى رجعته ، ويجوز على قياسه أنفعته بمعنى نفعته . ولكن اللغة لا تصح بالقياس ، ويجوز أن يكون ذلك سهوا من الكتاب بأن يكون في الأصل انتفاع غيره من باب الافتعال ا هـ كلامه .

وقال الشارح العيني بعد نقل كلام هؤلاء الشراح على الترتيب المذكور : قلت : لا يلزم أن تكون الهمزة هنا للتعدية لكون النفع متعديا بدون الهمزة ، بل يجوز أن تكون للتعريض من باب أبعته فإن باع متعد ، ولما قصدوا منه التعريض أدخلوا الهمزة عليه على قصد أن يكون المفعول معرضا لأصل الفعل ، فإن معنى أبعته عرضته للبيع وجعلته منتسبا إليه ، وكذلك هاهنا يكون المعنى فلا يلزمه أن يجعل غيره معرضا للنفع ولا منتسبا إليه انتهى .

أقول . ليس هذا بشيء ، إذ مآله أيضا إثبات اللغة بالقياس ، وهو غير صحيح على ما صرحوا به ، ولو صح ذلك لكان قياس ما في الكتاب على أرجعه بمعنى رجعه أولى وأحسن من قياسه على أباعه بمعنى عرضه للبيع كما لا يخفى على ذي فطرة سليمة .




الخدمات العلمية