الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        المبحث الثاني: شروط الموهوب

        وفيه مسائل:

        المسألة الأولى: الشرط الأول: أن تكون الهبة منجزة

        (الهبة المعلقة )

        إذا علق الواهب الهبة على شرط مستقبل، كأن يقول: وهبت لك هذه السيارة إذا جاء شهر رمضان، أو إذا رضي أبي، ونحو ذلك.

        فهل تصح وتنعقد الهبة مع هذا التعليق أو لا تنعقد؟.

        للعلماء رحمهم الله قولان في حكم تعليق الهبة على الشرط:

        القول الأول: صحة تعليق الهبة على الشرط.

        وهذا مذهب المالكية، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم.

        القول الثاني: عدم صحة تعليق الهبة على شرط.

        [ ص: 245 ] وإلى هذا ذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة.

        لكن عند الحنفية: يصح تعليق الهبة بالشرط الملائم، وهو ما يؤكد موجب العقد، كوهبتك على أن تعوضني كذا.

        ونص الحنابلة كما في كشاف القناع: "(و ) لا يصح (تعليقها ) أي: الهبة (على شرط مستقبل ) ..... وخرج بالمستقبل الماضي والحال، فلا يمنع التعليق عليه الصحة، كأن كانت ملكي ونحوه فقد وهبتكها فتصح (غير الموت ) فيصح تعليق العطية به وتكون وصية".

        أدلة القول الأول: (صحة تعليق الهبة على الشرط ) :

        (107 ) 1 - ما رواه أحمد من طريق مسلم بن خالد، عن موسى بن عقبة، عن أمه، عن أم كلثوم بنت أبي سلمة، عن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: لما تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، ولا أراه إلا قد مات وسترد الهدية، فإن كان كذلك فهي لك"، فكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، مات النجاشي وردت الهدية، فدفع عليه السلام إلى كل امرأة من نسائه أوقية مسك، ودفع الحلة وسائر المسك إلى أم سلمة.

        [ ص: 246 ] وجه الاستدلال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الهبة على رجوعها.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: أن هذا ليس هبة; بل هو وعد بالهبة.

        ويجاب: بأن ظاهر اللفظ في قوله: "فهو لك" يقتضي الهبة، وما عداه خلاف الظاهر.

        [ ص: 247 ] الثاني: أن الحديث ضعيف.

        (108 ) 2 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو قد جاءنا مال البحرين قد أعطيتك هكذا وهكذا".

        ونوقش هذا الاستدلال: بأنه من باب الوعد.

        وأجيب: بأن الهبة المعلقة بالشرط وعد.

        (109 ) 3 - ما رواه البخاري من طريق نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة".

        ففي هذا تعليق عقد الإمارة، فكذا الهبة.

        4 - أن تعليق العقود والتبرعات ونحوها بالشرط أمر تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، والمكلف قد لا يستغني عن التعليق، والشارع لا يمنع مثل هذا; إذ لا محذور فيه.

        5 - أن الأصل في العقود والشروط في العقود الصحة.

        6 - أن في تعليق الهبة على شرط منفعة للناس مع عدم المفسدة، فمثلا قد يرى المسلم محتاجا لكتب، فيقول: إن جاءتني نسخة أخرى فهي لك، وفي ذلك تشجيع على البذل والإحسان.

        [ ص: 248 ] أدلة القول الثاني: (عدم صحة تعليق عقد الهبة ) :

        استدل القائلون بعدم صحة تعليق عقد الهبة بالأدلة الآتية:

        1 - أن الهبة تمليك لمعين في الحياة، فلم يجز تعليقها في الحياة على شرط كالبيع.

        ونوقش من وجهين:

        الوجه الأول: الفرق بين البيع والهبة، فالبيع عقد معاوضة، والهبة عقد تبرع.

        الوجه الثاني: عدم التسليم بالمنع في المبيع، بل البيع مما يجوز تعليقه على شرط; لعدم المانع، والأصل الصحة.

        2 - أن التبرع تمليك، والتمليكات تبطل بالتعليق.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن هذا الاستدلال في محل النزاع، والأصل الذي بني عليه غير مسلم، فعقود التمليكات تقبل التعليق.

        3 - أن عقد الهبة يبطل بالجهالة، فلا يجوز تعليقه على الشرط.

        ونوقش من وجهين:

        الأول: عدم التسليم بوجود الجهالة عند تعلقها; لأن غاية ما في تعليقها على شرط أنه إن حصل الشرط حصلت الهبة، وإن لم يتحقق فلا تحصل.

        الثاني: عدم التسليم بعدم صحة هبة المجهول، بل الراجح أنه يصح هبة المجهول كما حررته في شرط العلم بالهبة.

        الترجيح:

        يترجح لي - والله أعلم - صحة تعليق الهبة على الشرط; لقوة ما استدلوا [ ص: 249 ] به، ولأن الهبة إحسان محض، وفي تعليقها تكثير لهذا الإحسان، ولأن القائلين بمنع التعليق في عقد الهبة أجازوا التعليق في بعض عقود التمليك; مما يدل على اضطراب هذا الأصل.

        التالي السابق


        الخدمات العلمية