الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
وضع جمع القلة موضع الكثرة

لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض ؛ لاشتراكها في مطلق الجمعية ، كقوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون ( سبأ : 27 ) فإن المجموع بالألف والتاء للقلة ، وغرف الجنة لا تحصى .

وقوله : هم درجات عند الله ( آل عمران : 163 ) ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة .

وقوله : الله يتوفى الأنفس ( الزمر : 42 ) .

وقوله : واستيقنتها أنفسهم ( النمل : 14 ) وهو كثير .

وقيل : سبب ذلك في الآية الأولى دخول الألف واللام الجنسية ؛ فيكون ذلك تكثيرا لها ، وكان دخولها على جمع القلة أولى من دخولها على جمع الكثرة ، إشارة إلى قلة من يكون فيها ، ألا ترى أنه لا يكون فيها إلا المؤمنون .

وقد نص سبحانه على قلتهم بالإضافة إلى غيرهم في قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ( ص 24 ) فيكون التكثير الداخل في قوله : وهم في الغرفات ( سبأ : 37 ) لا من جهة وضع جمع القلة موضع جمع الكثرة ، ولكن من جهة ما اقتضته الألف واللام للجنس .

واعلم أن جموع التكثير الأربعة وجمعي التصحيح ، أعني جمع التأنيث وجمع التذكير ، كل ذلك للقلة ؛ أما جموع التكسير فبالوضع ، وأما جمعا التصحيح ؛ فلأنهما أقرب إلى التثنية ، وهي أقل العدد فوجب أن يكون الجمع المشابه لها بمنزلتها في القلة ، وما عداها من الجموع فيرد تارة للقلة وتارة للكثرة بحسب القرائن ، قال تعالى : [ ص: 417 ] الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( الفاتحة : 7 ) هدى للمتقين ( البقرة : 2 ) وأولئك هم المفلحون ( البقرة : 5 ) إنما نحن مصلحون ( البقرة : 11 ) ألا إنهم هم المفسدون ( البقرة : 12 ) مستهزئون ( البقرة : 14 ) وما كانوا مهتدين ( البقرة : 16 ) وكنتم أمواتا ( البقرة : 28 ) وعلم آدم الأسماء كلها ( البقرة : 31 ) فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ( البقرة : 31 ) بسمعهم وأبصارهم ( البقرة : 20 ) أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ( البقرة : 44 ) إذا طلقتم النساء ( الطلاق : 1 ) ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( التوبة : 70 ) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ( البقرة : 85 ) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ( البقرة : 154 ) وبينات من الهدى ( البقرة : 185 ) واتقون ياأولي الألباب ( البقرة : 197 ) باللغو في أيمانكم ( المائدة : 89 ) أن ينكحن أزواجهن ( البقرة : 232 ) .

حافظوا على الصلوات ( البقرة : 238 ) فإن قلت : ليس هذا منه ، بل هي للقلة ؛ لأنها خمس .

قلت : لو كان كذلك لما صح لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ( البقرة : 236 ) فيما عرضتم به من خطبة النساء ( البقرة : 235 ) فالمراد منها واحد ، والجواب عن أحدهما الجواب عن الآخر .

وقوله تعالى : من كل الثمرات ( البقرة : 266 ) إن تبدوا الصدقات ( البقرة : 271 ) الصابرين والصادقين ( آل عمران : 17 ) الآية والمؤمنين والمؤمنات ( الأحزاب : 35 ) الآية . ولا تحصى كثرة .

ومن شواهد مجيء جمع القلة مرادا به الكثرة قول حسان رضي الله عنه :


لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وحكي أن النابغة قال له : قد قللت جفناتك وأسيافك .

[ ص: 418 ] وطعن الفارسي في هذه الحكاية لوجود وضع جمع القلة موضع الكثرة فيما له جمع كثرة ، وفيما لا جمع كثرة له في كلامهم ، وصححها بعضهم . قال : يعني أنه كان ينبغي لحسان تجنب اللفظ الذي أصله أن يكون في القلة ، وإن كان جائزا في اللسان وضعه لقرينة ، إذا كان الموضع موضع مدح ، أو أنه وإن كانت القلة توضع لمعنى الكثرة لكن ليس في كل مقام .

ومن المشكل قوله تعالى : فيضاعفه له أضعافا كثيرة ( البقرة : 245 ) فإن ( أضعافا ) جمع قلة ، فكيف جاء بعد كثرة ؟ !

والجواب أن جمع القلة يستعمل مرادا به الكثرة ، وهذا منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية