الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير

                                                                                                                                                                                                                                      النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر ، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا : أعني من اللوح المحفوظ ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ، ومنه إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي نأمر بنسخه .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني : الإبطال والإزالة ، وهو المقصود هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة : أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله ، وهو معنى قوله : ما ننسخ من آية وفي صحيح مسلم لم تكن نبوة قط إلا تناسخت أي تحولت من حال إلى حال .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم : نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيله .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه ما روي عن أبي وعائشة أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى ، وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه ، يقال : نسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب ، وتناسخ الورثة أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم ، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جرير : ما ننسخ ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن نحول الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا [ ص: 84 ] منسوخ ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة إلى أخرى ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره ، وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن فلا نطول بذكره ، بل نحيل من أراد الاستشفاء عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفا وخلفا ، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتد بخلافه ولا يؤبه لقوله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اشتهر عن اليهود - أقماهم الله - إنكاره ، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ، ثم قد حرم الله بعد ذلك على موسى - عليه السلام - وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان .

                                                                                                                                                                                                                                      وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج الأخ من الأخت ، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه ، ثم قال الله له : لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أو ننسها قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز ، وبه قرأ عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير والنخعي وابن محيصن ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ من قولهم : نسأت هذا الأمر : إذا أخرته .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في أجلك وأنسأ الله أجلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد انتسأ القوم : إذا تأخروا وتباعدوا ، ونسأتهم أنا : أخرتهم ، وقيل : معناه : نؤخر نسخ لفظها ، أي نتركه في أم الكتاب فلا يكون .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون : ننسها بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ، ومنه قوله تعالى : نسوا الله فنسيهم أي : تركوا عبادته فتركهم في العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                      واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم .

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها يقال : أنسيته الشيء ، أي أمرته بتركه ، ونسيته : تركته ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      إن علي عقبة أقضيها لست بناسيها ولا منسيها

                                                                                                                                                                                                                                      أي ولا آمر بتركها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى بمعنى ترك ، قال : وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أو ننسها قال : نتركها لا نبدلها . فلا يصح ، والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أو ننسها نبح لكم تركها ، من نسي : إذا ترك ثم تعدى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومعنى : نأت بخير منها أو مثلها نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل ، أو في أحدهما ، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير يفيد أن النسخ من مقدوراته ، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية ، وهكذا قوله : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته ، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانا يقرآن بها ، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنها مما نسخ ( أو : نسي ) فالهوا عنها وفي إسناده سليمان بن أرقم وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : ما ننسخ من آية أو ننسها يقول : ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها نأت بخير منها أو مثلها يقول : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : ننسها نؤخرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله : ما ننسخ من آية قال : نثبت خطها ونبدل حكمها أو ننسها قال : نؤخرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله : نأت بخير منها أو مثلها يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف : أن رجلا كانت معه سورة ، فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها ، وقام آخر يقرأ بها فلم يقدر عليها ، وقام آخر فلم يقدر عليها ، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه ، فقال : إنها نسخت البارحة وقد روي نحوه عنه من وجه آخر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة ( أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ) ثم نسخ ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى قال : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة بـ ( براءة ) فأنسيتها ، غير أني حفظت منها ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب ) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ، أولها : " سبح لله ما في السماوات " فأنسيناها ، غير أني حفظت منها " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة " [ ص: 85 ] وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية