الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ الأمر المعلق بشرط أو صفة أو وقت ] أما الأمر المعلق بشرط أو صفة أو وقت ، نحو إن كان زانيا فارجمه ، { والسارق والسارقة فاقطعوا } { أقم الصلاة [ ص: 317 ] لدلوك الشمس } فهل يقتضي تكرار المأمور به بتكرارها ؟ من قال : الأمر المطلق يقتضي التكرار فهاهنا أولى ، وهو عندكم آكد التكرار من المجرد ، ومن قال : لا يقتضيه ، ثم اختلفوا هاهنا على وجهين . حكاه الصيرفي وابن القطان والشيخ أبو حامد الإسفراييني في أصولهم . وحرر الآمدي وابن الحاجب والهندي محل النزاع المعلق إما أن يثبت كونه علة لوجوب الفعل مثل { الزانية والزاني فاجلدوا } وقولنا : إن كان هذا المائع خمرا فهو حرام فإن الحكم يتكرر بتكرره اتفاقا من القائلين بالقياس ، وإن لم يثبت كونه علة بل توقف الحكم عليه من غير تأثير له كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم ، فهو محل الخلاف . انتهى .

                                                      وبه صرح صاحب الكبريت الأحمر " ، وهو قضية كلام أبي الحسين في المعتمد فإنه قال : المراد هنا بالصفة ما علق به الحكم من غير أن يتناول لفظ تعليل ولا شرط ، كقوله : { فتحرير رقبة } { والسارق والسارقة } وجزم بعد ذلك بالتفصيل المذكور . وقضية كلام الإمام فخر الدين جريان الخلاف مطلقا ، وقد يجمع [ ص: 318 ] بينهما بأن الآمدي فرض الكلام مع القائلين بأن ترتيب الحكم على الوصف يفيد العلية ، والإمام تكلم في أصل المسألة مع المخالف في الموضعين .

                                                      والحاصل : أن المعلق على سبب ، ك { أقم الصلاة لدلوك الشمس } و { اقطعوا } ، و { اجلدوا } في الآيتين يتكرر بتكرره اتفاقا ، والمعلق على شرط هو موضع الخلاف . وأما تكرار الأمر بالتطهير بتكرر الجنابة ، وتكرار الأمر بالوضوء بتكرر القيام إلى الصلاة ، فيرجع إما إلى السببية ، أو بدليل من خارج ، ويعرف السبب بمناسبته ، أو بعدم دخول أداة الشرط عليه . وجعل الغزالي موضع الخلاف في العلة الشرعية . قال : فأما العقلية فإن الحكم يتكرر بتكررها اتفاقا . ثم في المسألة مذاهب : أحدها : أنه لا يقتضي التكرار ، وإنما يقتضي فعل مرة إلا أن يقوم دليل على التكرار . قال أبو بكر الصيرفي : إنه أنظر القولين ، وقال ابن فورك : إنه الأصح . وقال الشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني في القواطع والشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم الرازي وإلكيا الطبري : إنه الصحيح كالمطلق ، ونقله في المعتمد " عن أكثر الفقهاء ، وكذا قاله صاحب المصادر " وزاد أبا حنيفة وأبا عبد الله البصري ، وقال السرخسي من الحنفية : إنه المذهب الصحيح ، ونقله في الملخص " عن أكثر الفقهاء من المالكية والشافعية [ ص: 319 ] والأصوليين ، وربما نسب للشافعي . قال أبو الحسين بن القطان : لأنه قال فيما لو قال لامرأته : كلما دخلت الدار فأنت طالق : إنها تطلق بكل دخلة ، ولو قال : إذا دخلت الدار فأنت طالق ، وإذا طلعت الشمس فأنت طالق أن ذلك يحمل على فعل مرة واحدة ، ففرق بين " إذا " و " كلما " وهذا موضع اللسان ، فدل على أن إحداهما للتكرار ، والأخرى لا تقتضيه ، واختار هذا الآمدي وابن الحاجب . والثاني : أنها تقتضيه كالنهي قال ابن القطان : قال أصحابنا : وهو أشبه بمذهب الشافعي ; لأنه قال في التيمم لكل صلاة : لما قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم } وكل من قام وجب عليه الوضوء .

                                                      قال : فلما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم للصلوات وضوءا واحدا دلنا على أن المراد من ذلك في الطهارة بالماء ، وبقي في التيمم في الظاهر ، ولأنه يقول بالعموم ، وهذا عام في سائر الأوقات . قال : وأبو بكر خرجها على وجهين ، ثم قال : والأقيس أنه لا يتكرر ، والأظهر على المذاهب : التكرار . انتهى . وقوله : والأظهر هو من كلام أبي بكر الصيرفي كما رأيته في كتابه فاعلمه . وحكى هذا الاستدلال شمس الأئمة السرخسي ورده بأن المراد بقوله [ ص: 320 ] تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة } أي : محدثين باتفاق المفسرين ، وعلى هذا يستوي حكم الطهارة بالماء والتيمم وقال ابن فورك : ما تعلقوا به من احتجاج الشافعي في التيمم فلا حجة فيه ; لأن وجوب تكرير التيمم لا يصلح الاستدلال عليه بذلك إلا بعد أن يصح وجوب تكرير الصلاة فيجرى أمر التيمم على ما يجرى عليه أمرها . والثالث : إن كان الشرط مناسبا لترتب الحكم عليه بحيث يكون علته ، كقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا } وكآية القذف ونحوه ، فإنه يتكرر بتكرره للاتفاق على أن الحكم المعلل يتكرر بتكرارها وإن لم يكن كذلك لم يتكرر إلا بدليل من خارج . والرابع : أنه لا يدل عليه من جهة اللفظ ; لأنه لم يوضع اللفظ له ولكن يدل من جهة القياس بناء على الصحيح أن ترتب الحكم على الوصف يشعر بالعلية ، واختاره في المحصول " والبيضاوي في المنهاج " والخامس : أن المعلق بشرط لا يقتضي التكرار ، والمعلق بصيغة يقتضيه من طريق القياس ، وهو قضية كلام القاضي في مختصر التقريب " وقال إمام الحرمين في التلخيص " : الذي يصح وارتضاه القاضي أن الأمر المقيد بشرط لا يتضمن تكرار الامتثال عند تكرر الشرط ، وإنما يقتضي مرة واحدة ، وهو على الوقف فيما عداها ، وصرح بعد ذلك بالتكرار في العلية .

                                                      واعلم أنه كما فصل الآمدي في الصيغة التفصيل السابق فصل القرطبي في الشرط ، فقال : إن اقتضى التكرار ، نحو كلما جاءك ومتى ما جاءك فأعطه ، فإنه يقتضي التكرار بحكم القرينة ، وإن لم يقتضه فلا تخرج صيغته عن موضوعها الأصلي .

                                                      [ ص: 321 ] قال إلكيا الهراسي : منشأ الخلاف أن إضافة الحكم إلى الشرط هل تدل على فعل الشرط مؤثرا كالعلة ؟ والصحيح : أنه لا يدل إلا على كونه أمارة على جواز الفعل ، والعلة وضعت مؤثرة جالبة ، والخصم يقول : ما يضاف الحكم إليه يدل على كونه مناطا للحكم . هذا كله في الأدلة الشرعية ، وأما في تصرف المكلفين فلا يقتضي تكرارا لمجرده ، وإن كان علة فإنه لو قال : أعتقت غانما لسواده ، وله عبيد آخرون سود لم يعتقوا قطعا ، والشرط أولى كقوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فإذا دخلت مرة وقع المعلق عليه ، وانحلت اليمين ، ثم لا يتعدد بتكرر المعلق عليه إلا في " كلما " ، ومنه يتبين فساد قول بعضهم : ينبغي أن يجري فيه هذا الخلاف الأصولي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية