الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        باب خيار النقيصة .

                                                                                                                                                                        هو منوط بفوات شيء من المعقود عليه كان يظن حصوله ، وذلك الظن من أحد ثلاثة أمور . أولها : شرط كونه بتلك الصفة . وثانيها : اطراد العرف بحصولها فيه . وثالثها : أن يفعل العاقد ما يورث ظن حصولها .

                                                                                                                                                                        فالأول :

                                                                                                                                                                        [ من أسباب الظن ] : كقوله : بعت هذا العبد بشرط كونه كاتبا . والصفات الملتزمة بالشرط ، قسمان .

                                                                                                                                                                        أحدهما يتعلق به غرض مقصود ، فالخلف فيها يثبت الخيار وفاقا ، أو على خلاف فيه ، وذلك بحسب قوة الغرض وضعفه .

                                                                                                                                                                        والثاني لا يتعلق به غرض مقصود ، فاشتراطه لغو ، ولا خيار بفقده . فإذا شرط كون العبد كاتبا أو خبازا أو صائغا ، فهو من القسم الأول . ويكفي أن يوجد من الصفة المشروطة ما ينطلق عليه الاسم ، ولا تشترط النهاية فيها .

                                                                                                                                                                        ولو شرط إسلام العبد ، فبان كافرا ، أو شرط كون الجارية يهودية أو نصرانية ، فبانت مجوسية ، ثبت الخيار . ولو شرط كفره ، فبان مسلما ، ثبت الخيار على الصحيح . وقيل : إن كان قريبا من بلاد الكفر ، أو في ناحية أغلب أهلها الذميون ، ثبت الخيار ، وإلا فلا . وقال المزني : لا خيار أصلا .

                                                                                                                                                                        ولو شرط بكارة الجارية ، فبانت ثيبا ، فله الرد ، سواء كانت مزوجة ، أم لا . وقال أبو إسحاق : لا خيار إن كانت مزوجة ; لأن الافتضاض حق للزوج . والصحيح : الأول ؛ لأنه قد يطلقها . ولو شرط ثيابتها ، فبانت بكرا ، أو شرط سبوطة شعرها ، فبان جعدا ، فلا خيار على الأصح ، لأنها أفضل ، كما لو شرط كون العبد أميا ، فبان كاتبا ، أو كونه فاسقا ، فبان عفيفا .

                                                                                                                                                                        ولو شرط الجعودة ، فبان سبطا ، ثبت الخيار . ولو شرط كون العبد خصيا ، فبان فحلا [ ص: 461 ] أو عكسه ، فله الرد ، لشدة اختلاف الأغراض . وقيل : لا رد في الصورة الأولى . ولو شرط كونه مختونا ، فبان أقلف ، فله الرد ، وبالعكس لا رد . وقال في " التتمة " : إلا أن يكون العبد مجوسيا . وهناك مجوس يشترون الأقلف بزيادة ، فله الرد .

                                                                                                                                                                        ولو شرط كونه أحمق أو ناقص الخلقة ، فهو لغو . وخيار الخلف على الفور ، فيبطل بالتأخير كما سنذكر في العيب إن شاء الله تعالى . ولو تعذر الرد بهلاك وغيره ، فله الأرش كما في العيب . ومسائل الفصل كلها مبنية على أن الخلاف في الشرط لا يفسد البيع . وحكي قول ضعيف أنه يفسده .

                                                                                                                                                                        الثاني من أسباب الظن : اطراد العرف . فمن اشترى شيئا فوجده معيبا ، فله الرد . ومن باع شيئا يعلم به عيبا وجب عليه بيانه للمشتري .

                                                                                                                                                                        قلت : ويجب أيضا على غير البائع ممن علمه إعلام المشتري . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فمن العيوب : الخصاء ، والجب ، والزنا ، والسرقة في العبيد والإماء ، والإباق ، والبخر والصنان فيهما . والبخر الذي هو عيب ، هو الناشئ من تغير المعدة ، دون ما يكون لقلح الأسنان ، فإن ذلك يزول بتنظيف الفم . والصنان الذي هو عيب ، هو المستحكم الذي يخالف العادة ، دون ما يكون لعارض عرق ، أو حركة عنيفة ، أو اجتماع وسخ .

                                                                                                                                                                        ونص الأصحاب على أنه لو زنا مرة واحدة في يد البائع ، فللمشتري الرد وإن تاب وحسنت حاله ; لأن تهمة الزنا لا تزول ، ولهذا لا يعود إحصان الحر الزاني بالتوبة ، وكذلك الإباق والسرقة ، يكفي في كونهما عيبا مرة واحدة .

                                                                                                                                                                        ومن العيوب : كون الدار أو الضيعة منزل الجند . قال القاضي حسين في فتاويه : هذا إذا اختصت من بين ما حواليها بذلك ، فإن كان ما حواليها من الدور بمثابتها ، فلا رد ، وكونها ثقيلة الخراج عيب ، وإن كنا لا نرى أصل الخراج في تلك البلاد ، لتفاوت القيمة [ ص: 462 ] والرغبة . ونعني بثقل الخراج كونه فوق المعتاد في أمثالها . وفي وجه : لا رد بثقل الخراج ، ولا بكونها منزل الجند . وألحق في " التتمة " بهاتين الصورتين ، ما إذا اشترى دارا ، فوجد بقربها قصارين يؤذون بصوت الدق ، ويزعزعون الأبنية ، أو أرضا فوجد بقربها خنازير تفسد الزرع . ولو اشترى أرضا يتوهم أن لا خراج عليها ، فبان خلافه ، فإن لم يكن على مثلها خراج ، فله الرد . وإن كان على مثلها ذلك القدر ، فلا رد .

                                                                                                                                                                        وبول الرقيق في الفراش ، عيب في العبد والأمة ، إذا كان في غير أوانه . أما في الصغر ، فلا . وقدره في " التهذيب " بما دون سبع سنين . والأصح : اعتبار مصيره عادة . ومن العيوب : مرض الرقيق وسائر الحيوانات ، سوى المرض المخوف وغيره . ومنها : كون الرقيق مجنونا ، أو مخبلا ، أو أبله ، أو أبرص ، أو مجذوما ، أو أشل ، أو أقرع ، أو أصم ، أو أعمى ، أو أعور ، أو أخفش ، أو أجهر ، أو أعشى ، أو أخشم ، أو أبكم ، أو أرت لا يفهم ، أو فاقد الذوق أو أنملة أو الشعر أو الظفر ، أو له أصبع زائدة ، أو سن شاغية ، أو مقلوع بعض الأسنان ، وكون البهيمة درداء ، إلا في السن المعتاد ، وكونه ذا قروح أو ثآليل كثيرة ، أو بهق ، أو أبيض الشعر في غير أوانه ، ولا بأس بحمرته .

                                                                                                                                                                        قلت : البهق - بفتح الباء الموحدة والهاء - وهو بياض يعتري الجلد يخالف لونه ، ليس ببرص . وأما السن الشاغية ، فهي الزائدة المخالفة لنبات الأسنان . والأخفش ، نوعان ، أحدهما : ضعيف البصر خلقة . والثاني : يكون بعلة حدثت ، وهو الذي يبصر بالليل دون النهار ، وفي يوم الغيم دون الصحو ، وكلاهما عيب . وأما الأجهر - بالجيم - فهو الذي لا يبصر في الشمس . والأعشى : هو الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل . والمرأة عشواء . والأخشم : الذي في أنفه داء لا يشم شيئا . وتقدم بيان الأرت في صفة الأئمة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومنها : كونه نماما ، أو ساحرا ، أو قاذفا للمحصنات ، أو مقامرا ، أو تاركا [ ص: 463 ] للصلوات ، أو شاربا للخمر . وفي وجه ضعيف : لا رد بالشرب وترك الصلاة . ومنها : كونه خنثى مشكلا ، أو غير مشكل . وفي وجه ضعيف : إن كان رجلا ويبول من فرج الرجال ، فلا رد ومنها : كون العبد مخنثا ، أو ممكنا من نفسه ، وكون الجارية رتقاء ، أو قرناء ، أو مستحاضة ، أو معتدة ، أو محرمة ، أو مزوجة ، وكون العبد مزوجا . وفي التزويج ، وجه ضعيف .

                                                                                                                                                                        قلت : إذا أحرم بإذن السيد ، فللمشتري الخيار ، وإلا فلا ; لأن له تحليله ، كالبائع ، وقد قدمنا هذا في آخر كتاب الحج . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومنها : تعلق الدين برقبتهما ، ولا رد بما يتعلق بالذمة . ومنها : كونهما مرتدين ، فلو بانا كافرين أصليين ، فقيل : لا رد ، لا في العبد ، ولا في الإماء ، سواء كان ذلك الكفر مانعا من الاستمتاع ، كالتمجس والتوثن ، أو لم يكن ، كالتهود ، وبهذا قطع صاحب " التتمة " . والأصح ما في " التهذيب " : أنه إن وجد الجارية مجوسية أو وثنية ، فله الرد ، وإن وجدها كتابية ، أو وجد العبد كافرا أي كفر كان ، فلا رد إن كان قريبا من بلاد الكفر ، بحيث لا تقل الرغبة فيه . وإن كان في بلاد الإسلام ، حيث تقل الرغبة في الكافر وتنقص قيمته ، فله الرد . ولو وجد الجارية لا تحيض وهي صغيرة أو آيسة ، فلا رد . وإن كانت في سن تحيض النساء في مثلها غالبا ، فله الرد . ولو تطاول طهرها وجاوز العادات الغالبة ، فله الرد . والحمل في الجارية عيب وفي سائر الحيوان ، ليس بعيب على الصحيح . وقال في " التهذيب " : عيب .

                                                                                                                                                                        ومن العيوب : كون الدابة جموحا ، أو عضوضا ، أو رموحا ، وكون الماء مشمسا ، والرمل تحت الأرض إن كانت مما تطلب للبناء . والأحجار إن كانت مما تطلب للزرع والغرس . وليست حموضة الرمان بعيب ، بخلاف البطيخ .

                                                                                                                                                                        [ ص: 464 ] فرع

                                                                                                                                                                        لا رد بكون الرقيق رطب الكلام ، أو غليظ الصوت ، أو سيئ الأدب ، أو ولد زنا ، أو مغنيا ، أو حجاما ، أو أكولا ، أو قليل الأكل . وترد الدابة بقلة الأكل . ولا بكون الأمة ثيبا ، إلا إذا كانت صغيرة والمعهود في مثلها البكارة ، ولا بكونها عقيما ، وكون العبد عنينا . وعن الصيمري ، إثبات الرد بالتعنين ، وهو الأصح عند الإمام . ولا بكون الأمة مختونة ، أو غير مختونة ، ولا بكون العبد مختونا ، أو غير مختون ، إلا إذا كان كبيرا يخاف عليه من الختان . وفي وجه : لا تستثنى هذه الحالة أيضا . ولا بكون الرقيق ممن يعتق على المشتري ، ولا بكون الأمة أخته من الرضاع أو النسب ، أو موطوءة أبيه ، أو ابنه ، بخلاف المحرمة والمعتدة ; لأن التحريم هناك عام ، فتقل الرغبة ، وهنا خاص به . وفي وجه : يلحق ما نحن فيه بالمحرمة والمعتدة . ولا أثر لكونها صائمة على الصحيح . وفي وجه : باطل .

                                                                                                                                                                        ولو اشترى شيئا ، فبان أن بائعه باعه بوكالة ، أو وصاية ، أو ولاية ، أو أمانة ، فهل له الرد لخطر فساد النيابة ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح :

                                                                                                                                                                        [ أنه ] لا رد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو بان كون العبد مبيعا في جناية عمد ، وقد تاب عنها ، فوجهان . فإن لم يتب ، فعيب . وجناية الخطأ ، ليست بعيب ، إلا أن يكثر .

                                                                                                                                                                        [ ص: 465 ] فرع

                                                                                                                                                                        من العيوب : نجاسة المبيع إذا كان ينقص بالغسل . ومنها : خشونة مشي الدابة ، بحيث يخاف منها السقوط ، وشرب البهيمة لبن نفسها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ذكر القاضي أبو سعد بن أحمد في شرح أدب القاضي لأبي عاصم العبادي ، فصلا في عيوب العبيد والجواري . منها : اصطكاك الكعبين ، وانقلاب القدمين إلى الوحشي ، والخيلان الكثيرة ، وآثار الشجاج والقروح والكي ، وسواد الأسنان ، والكلف المغير للبشرة ، وذهاب الأشفار ، وكون أحد ثديي الجارية أكبر من الآخر ، والحفر في الأسنان ، وهو تراكم الوسخ الفاحش في أصولها .

                                                                                                                                                                        قلت : في فتاوي الغزالي : إذا اشترى أرضا ، فبان أنها تنز إذا زادت دجلة ، وتضر بالزرع ، فله الرد إن قلت الرغبة بسببه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        هذا ما حضر ذكره من العيوب ، ولا مطمع في استيعابها . فإن أردت ضبطا ، فأشد العبارات ما أشار إليه الإمام رحمه الله ، وهو أن يقال : يثبت الرد بكل ما في المعقود عليه من منقص العين ، أو القيمة تنقيصا يفوت به غرض صحيح ، بشرط أن يكون الغالب في أمثاله عدمه ، وإنما اعتبرنا نقص العين لمسألة الخصاء . وإنما لم نكتف بنقص العين ، بل شرطنا فوات غرض صحيح ؛ لأنه لو قطع من فخذه أو ساقه قطعة يسيرة لا تورث شينا ولا تفوت غرضا ، لا يثبت الرد . ولهذا قال [ ص: 466 ] صاحب التقريب : إن قطع من أذن الشاة ما يمنع التضحية ، ثبت الرد ، وإلا فلا . وإنما اعتبرنا الشرط المذكور ; لأن الثيابة مثلا في الإماء ، معنى ينقص القيمة ، لكن لا رد بها ؛ لأنه ليس الغالب فيهن عدم الثيابة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية