الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الآيات القرآنية الدالة على وجوب طاعة الله ورسوله والاقتصار على تحكيمها

والآيات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله كثيرة طيبة.

منها: قوله تعالى: وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [آل عمران: 132] وفيه: أن المرحومين هم المطيعون لهما، والمراد بإطاعتهما: إطاعة الكتاب والسنة.

ومعلوم أن إطاعة الفتاوى والدفاتر المجموعة في الآراء ليست بإطاعة لهما، بل هي إطاعة لمن ألفها وجمعها كيفما كان.

وقوله: قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [آل عمران: 32] ومفهوم هذا: أن غير المطيع لهما في عداد الكفار، ونعوذ بالله من ذلك.

ولا يستطيع أحد من المقلدة أن يقول: أنا مطيع لحكم الله وحكم رسوله.

فإن قال ذلك، كان كاذبا صريحا؛ لأن ما في كتب مذهبه من الأصول والفروع ليس هو حكم الله، ولا حكم رسوله، بل هو بصاق الفضلاء، ومخاط الفقهاء، وقذر القياس، ودنس الرأي.

[ ص: 303 ] ولا يفيده اتفاق بعض ما فيه من الأحكام والمسائل بما فيهما؛ لأن للأكثر حكم الكل، والأكثر فيها ما يخالف الكتاب، وصرائح السنة.

وإن كنت في ريب من هذا فاعرض هذه الطوامير الطويلة، والدساتير العريضة على كتب التفاسير من السلف، وعلى دواوين السنة من أهل الحديث، يسفر لك صبح اليقين.

وقوله: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم [النساء: 69] إلخ. فيه: بشارة للمطيعين، وفضيلة للمتبعين الذين أطاعوا الله ورسوله فيما أنزل وجاء به، وهم من لا يقلدون أحدا في دين الله، ولا يطيعون رجلا وإن بلغ في العلم والعمل غاية منتهاه؛ لأن كل واحد يؤخذ قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: من يطع الرسول فقد أطاع الله [النساء: 80] فيه: أن طاعة أحدهما هي طاعة الآخر بعينها.

وفيه: إشارة إلى العمل بالحديث؛ لأن طاعة الرسول لا تتحقق إلا إذا عمل بقوله، واقتدى بفعله، وذلك لا يتأتى إلا باتباع سنته، والاعتصام بحديثه.

فالقرآن داع إلى العمل بالسنة، كما أن السنة تدعو إلى العمل بالقرآن والاعتصام به.

وقد تقدم تفسير قوله سبحانه: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول في موضعه، وهو نص في محل النزاع، وبرهان ساطع على رد التقليد المشؤوم.

ومفهومه: أن من لا يرد التنازع إليهما، لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وأي وعيد أعظم من ذلك في شأن المقلدين، فقد خرجوا عن الإيمان، وصاروا كمنكر المعاد، أعاذنا الله وإخواننا وأخلافنا عن تبعات هذه التقليدات، ووفقنا للعمل بكتابه وبسنة رسوله سيد الكائنات، عليه أفضل الصلوات والتسليمات.

وقوله: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار [النساء: 13] الآية.

[ ص: 304 ] فيه وعد لأهل الإطاعة بدخول الجنة، ولا تتأتى الإطاعة إلا بالتمسك بالكتاب والسنة.

ومن زعم أن العامل بكتب المذاهب مطيع لهما، فقد أخطأ خطأ فاحشا، وأين الثريا من الثرى، والشمس من السهل؟! بل أوتي هو من قبل نفسه، وعلى نفسها براقش تجني.

وقوله: ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [النساء: 14] ومعلوم أن من ترك الكتاب والسنة، وهما موجودان في عصره، وفي بلده، وعند أهل نحلته وجلدته، وأقبل على دفاتر الرأي والكتب المذهبية، المحتوية على أنواع من الأقيسة والبدع والأهواء، فهو عاص لله ولرسوله، وليس بمطيع لهما؛ لأنه تعدى حدود الله، وجاوز بها إلى تقليد الأحبار والرهبان، فلهذا حكم عليه بخلود النار، ونعوذ بالله منها.

وقوله: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين [المائدة: 92] فيه التحذير عن عصيان الله ورسوله، بأي نوع كان، ومن أي إنسان وقع، والأمر بطاعتهما على الإطلاق.

فكل ما يصدق عليه أنه عصيان لهما، فالحذر منه واجب؛ لأن الأصل فيه الوجوب.

ولا شك أن في إيثار التقليد والعمل بغير القرآن والحديث عصيانا لله ولرسوله واضحا جليا، لا يجحده إلا مكابر غبي، أو جاهل شقي، وقد بلغ إليه الرسول ما كان حقا واضحا، وليس عليه، ولا على رسله من العلماء العارفين بالسنة، والمحدثين الفحول، إلا هذا البلاغ.

فهذه الجوامع والسنن والمسانيد والمعاجم، من آثار بلاغتهم، قبلوا ذلك أم أبوا، والمهدي من هداه الله.

وقوله: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [الأنفال: 1] هذه الشرطية فيها من الوعيد، ما تقشعر له الجلود.

[ ص: 305 ] والمقلدة في مغالطة منهم، فإنهم يظنون أن هذه الكتب الفقهية المذهبية إنما أخذت مسائلها ورسائلها من الكتاب والسنة، وأن الأئمة استنبطوها منهما، فهي عين المراد لله وللرسول، ونحن لقصور أفهامنا، وقلة علومنا، لا نصل من مبانيهما ومعانيهما إلى ما وصلوا إليه، وليس العمل بتلك الأسفار غير العمل بالقرآن والحديث.

وهذا سوء فهم منهم؛ لأن الله نص على أن آيات كتابه بينات، وأن رسوله -صلى الله عليه وسلم- قال: «تركتكم على الواضحة البيضاء، ليلها كنهارها» أو كما قال.

فإذا تقرر أن القرآن والسنة ليس فهمهما بمشكل على أحد، فلا ندري ما الذي يمنعهم عن النظر فيهما بدل النظر في تلك الكتب المفرعة؟ وأي شيء يعوقهم عن العمل بظاهر ما في الكتاب وما في الصحاح الستة؟

وهل يرضى عاقل بإيثار المشكل، وترك السهل، واختيار المبهم على المبين، وتقديم الرأي على الرواية، وتقديم الجهل على العلم، والفرع على الأصل، والمنقطع على الموصول، والموقوف على المرفوع؟

والله! لا يقول بذلك من له أدنى إلمام باللب، فضلا عمن له عقل قويم، وقلب سليم.

فانظر في حال نفسك من أي هذين الفريقين أنت، يا تارك الخير، وباغي الشر، وفقك الله للاتباع والتوحيد، وصانك عن مفاسد التقليد.

وقوله: يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [الأنفال: 24] الأمر للوجوب، والاستجابة لهما هي قبول ما أمرا به، ونهيا عنه في الكتاب والسنة، والعمل بمقتضاهما.

لا ريب أن الله ورسوله دعيا الأمة جميعها، حاضرها وغائبها، إلى التمسك بالثقلين، والاعتصام بهذين الأصلين النيرين.

وكذلك دعيا حملة علومهما، ونقلة أحكامهما، سائر الأمة، من العصر [ ص: 306 ] الأول إلى هذا الزمان، في كل قطر وأفق، من العرب والعجم، إلى الاتباع، وصاحوا به في كل محل ومكان، وأقاموا على ذلك ألوفا من البرهان، وصنوفا من التأليفات المشتملة على الأدلة الناطقة بالحق والصواب، في كل أمر وشأن.

ولكن لم يستجب أكثرهم؛ لكونهم مأسورين في شرك التقليد، إلا من رحمه الله تعالى، من نزاع القبائل والأجيال، وأفراد العشائر والرجال.

وهم كثيرون تارة، وقليلون أخرى، ولكن لا يخلو زمان منهم، وعدا منه سبحانه للمؤمنين بالنصر والفتح المبين، ومن رسوله الأمين بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين منصورين» الحديث. اللهم اجعلنا من هذه الجماعة.

وقوله: وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم [الأنفال: 46] فيه النهي عن التنازع في أمور الدين والدنيا، وأصل النهي التحريم، وفرع على ذلك الفشل وذهاب الريح.

وقد وقع كما في هذه الآية، فإن الناس تركوا إطاعة الله ورسوله، بترك العمل بالكتاب والسنة، وتنازعوا في أدلتهما الواضحة، وقدموا عليهما ما بلغهم من أحبارهم ورهبانهم، وآثروا التقليد، ونبذوا الاتباع وراء الظهور، ففشلوا عن التصلب في الدين، والجهاد في الإسلام مع المخالفين، المغضوب عليهم والضالين، وذهبت ريحهم التي كانت في قلوب أعداء الملة، وفني رعبهم الذي كان على سائر الأمم، حتى أدى بهم هذا التقليد إلى غربة الإسلام، وإدبار شوكته، وإقبال أعدائه عليهم، وتسلطهم على جميع الأمة، إلى أن آل الأمر في هذا الزمان إلى فقد الدين بأسره، وفناء التوحيد بكله، وذهاب الإخلاص بتمامه.

ولم يبق إلا الرياء والسمعة، واسم الإسلام، ورسم الإيمان.

وانهمك أهل الفضل في طلب الجاه باشتهارهم بأسماء الموالي والفقراء والمشايخ، ورضوا بهذا عوضا عما عند الله للمخلصين له الدين، المطيعين له ولرسوله الأمين، المتبعين لكتابه وحديث نبيه الكريم، فإنا لله وإنا إليه راجعون أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير [البقرة: 61]؟

[ ص: 307 ] ولقد صدق الله تعالى فيما أخبرنا به في كتابه العزيز: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .

اللهم رد إلينا ريحنا، واذهب بفشلنا، ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

وقوله: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون [النور: 51]. فيه فضيلة أهل الاتباع، وبشارة لهم على السمع والطاعة لحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

والآية عامة في كل من دعا الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- وفي كل من أجاب ذلك الداعي.

ولا شك أن أول من دعا إلى هذا هو الله سبحانه، دعاهم إلى طاعته التي هي طاعة كتابه، وامتثال أوامره ونواهيه، ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته الحاضرة في ذلك الوقت بلا واسطة، أو بواسطة، إلى اتباع القرآن والحديث، ثم دعت الصحابة -رضي الله عنهم- أتباعهم إلى ذلك، ثم دعا تابعوهم بالإحسان سائرهم إليه، ثم دعا أهل الحديث والقرآن في كل عصر وزمن، من عهد الصدر الأول في كل أفق وجهة، كل إنسان كائن في مكان، أي مكان كان، إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، وصاحوا به على المنابر، وفي الأسواق وسائر الآفاق، هذه كتبهم تشهد لهم بذلك.

فمن علم الله أنه يوفق للهداية قبل منهم هذا الدعاء، ومن قدر الله أنه لا يصلح باله لم يستجب لهم، فلم يفلح.

وقد أفلح المؤمنون الموفقون للاتباع، المتأهلون لترك الإشراك والابتداع، ولله الحمد.

وقد رأينا وسمعنا أنه لا يخلو زمان ممن يستجيب له ولكتابه ولرسوله ولسنته في أفق من الآفاق، وإن كانوا على قلة أو كثرة، بحسب تفاوت الأحوال والأشخاص والأمصار، وهذا من نعم الله تعالى علينا، وله الفضل والمنة.

[ ص: 308 ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [التوبة: 32].

والآية فيها دلالة على أن السمع والطاعة لهما، عند الأمر والحكم، والنهي والدعاء إليها، من أي داع كان، وفي أي محل وقع، من شأن أهل الإيمان وعلامة الفلاح لهم.

ومفهومه المخالف: أن خلاف هذا من أمارة الهلاك، وذهاب الإيمان.

عافانا الله من ذلك، ووفقنا بما هنالك.

وقوله: ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [النور: 52] فيه الإخبار بفوز متبعي الكتاب والسنة، والإشارة إلى أن المتبعين هم الخاشون لله، والمتقون منه.

فمن لم يطع القرآن والحديث، وأخذ بالتقليد والهوى والعصبية، وقدم الرأي على النص والرواية، فكأنه لم يخش الله، ولم يتقه، ولم يفز، وحرم من هذه الفضيلة والنعمة العظيمة.

وقوله: وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [النور: 56] فيه وعد المرحومية على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولا طاعة له إلا إذا عمل بسنته، ورفض بدعة غيره، وإن كان إمام الوقت ومجتهد العصر، وبلغ من الفضل منتهاه، ومن الكمال مداه؛ فإنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

التالي السابق


الخدمات العلمية