الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                        صفحة جزء
                                                        [ ص: 149 ] 3 - باب رد اليمين

                                                        قال أبو جعفر : اختلف الناس في المدعى عليه يرد اليمين على المدعي .

                                                        فقال قوم : لا يستحلف المدعي ، وقال آخرون : بل يستحلف فإن حلف استحق ما ادعى بحلفه ، وإن لم يحلف لم يكن له شيء .

                                                        واحتجوا في ذلك بما قد رويناه في غير هذا الموضع عن سهل بن أبي حثمة في القسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : تبرئكم يهود بخمسين يمينا ؛ فقالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحلفون ، وتستحقون ؟

                                                        فقالوا : قد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيمان التي جعلناها في البدء على المدعى عليهم فجعلها على المدعين .

                                                        فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأولى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال : أتبرئكم يهود بخمسين يمينا لم يكن من اليهود رد الأيمان على الأنصار فيردها النبي صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك حجة لمن يرى رد اليمين في الحقوق .

                                                        إنما قال : أتبرئكم يهود بخمسين يمينا ؟ فقالت الأنصار : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟

                                                        فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتحلفون ، وتستحقون ؟

                                                        فقد يجوز أن يكون كذلك حكم القسامة ، ويجوز أن يكون ذلك على النكير منه عليهم إذ قالوا : كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فقال لهم : أتحلفون وتستحقون ؟ كما قال : أيدعون ويستحقون ؟

                                                        فلما احتمل هذين الوجهين لم يكن لأحد أن يحمله على أحدهما دون الآخر إلا ببرهان يدله على ذلك .

                                                        فنظرنا فيما سوى هذا الحديث من الآثار المروية فإذا ابن عباس قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه .

                                                        فثبت بذلك أن المدعي لا يستحق بدعواه دما ، ولا مالا ، وإنما يستحق بها يمين المدعى عليه خاصة .

                                                        هذا حديث ظاهر المعنى ، ولا لنا أن نحمل ما خفي علينا معناه من الحديث الأول على ذلك .

                                                        وأما وجه ذلك من طريق النظر فإنا رأينا المدعي الذي عليه أن يقيم الحجة على دعواه لا تكون حجته تلك حجة جارة إلى نفسه مغنما ، ولا دافعة عنها مغرما .

                                                        فلما وجبت اليمين على المدعى عليه فردوها على المدعي فإن استحلفنا المدعي جعلنا يمينه حجة له ، وحكمنا له بحجة كانت منه هو بها جار إلى نفسه مغنما ، وهذا خلاف ما تعبد به العباد فبطل ذلك .

                                                        فإن قال قائل : إنما نحكم له بيمينه ، وإن كان بها جارا إلى نفسه ؛ لأن المدعى عليه قد رضي بذلك .

                                                        قيل له : وهل يوجب رضا المدعى عليه زوال الحكم عن جهته ؟

                                                        أرأيت لو أن رجلا قال : ما ادعى على فلان من شيء فهو مصدق ، فادعى عليه درهما فما فوقه ، هل يقبل ذلك منه ؟ [ ص: 150 ] أرأيت لو قال : قد رضيت بما شهد به زيد علي لرجل فاسق أو لرجل جار إلى نفسه بتلك الشهادة مغنما شهد زيد عليه بشيء هل يحكم بذلك عليه ؟

                                                        فلما كانوا قد اتفقوا أنه لا يحكم عليه بشيء من ذلك ، وأن رضاه في ذلك ، وغير رضاه سواء ، وأن الحكم يجب في ذلك ، وإن رضي إلا بما كان يجب لو لم يرض كان كذلك أيضا يمين المدعي لا يجب له بها حق على المدعى عليه ، وإن رضي المدعى عليه به بذلك .

                                                        والحكم بيمينه بعد رضاه بها كحكمها قبل ذلك .

                                                        فثبت بما ذكرنا بطلان رد اليمين على المدعى عليه ، وهذا كله قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد ، رحمة الله تعالى عليهم .

                                                        التالي السابق


                                                        الخدمات العلمية