الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ احتياج الإجزاء إلى دليل ] إتيان المكلف بالمأمور به على المشروع موجب للإجزاء عند الجمهور خلافا لأبي هاشم والقاضي وعبد الجبار حيث قالا : الإجزاء يحتاج إلى دليل . قال الأستاذ أبو منصور : وهو خلاف مردود بإجماع السلف على خلافه . ونقل الشيخ أبو حامد الإسفراييني وسليم الرازي قولا ثالثا : أن الأمر موقوف على ما يثبته الدليل ونسباه للأشعرية .

                                                      [ ص: 339 ] قال سليم : وهو قريب من مذهب المعتزلة . وفيها مذهب رابع : وهو أنه يقتضي الإجزاء من حيث عرف الشرع ، ولا يقتضيه من حيث وضع اللغة : حكاه في المصادر " عن الشريف المرتضى . وخامس : وهو التفصيل بين ما يقع على الشروط المعتبرة ، كالصلاة المؤداة بشروطها وأركانها فهو موصوف بالإجزاء ، وبين ما يدخله ضرب من الخلل إما من جهة المكلف أو غيره كالوطء في الحج والصوم فلا يدل على الإجزاء . حكاه القاضي عبد الوهاب في الملخص " . ثم قال : وليس هذا في الحقيقة مذهبا آخر ; لأنا لا نقول بالإجزاء على أي أمر وقع ، وإنما يجزئ إذا وقع على الوجه المعتبر . وقال الغزالي في المستصفى " إذا قلنا : إن القضاء يجب بأمر جديد ، وأنه مثل الواجب الأول ، فالأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله بعد الامتثال ، لكن إنما سمي قضاء إذا كان فيه تدارك الفائت من أصل العبادة ووضعها ، فإن لم يكن فوات استحال تسميته قضاء يعني شرعا لا عقلا . ولا بد من تحرير محل النزاع فنقول : الإجزاء يطلق باعتبارين : أحدهما : الامتثال . والثاني : إسقاط القضاء ، فالمكلف إذا أتى بالمأمور على وجهه فعلى الأول هو مجزئ بالاتفاق ، وعلى الثاني هو موضع الخلاف كما صرح به القاضي عبد الوهاب في الملخص " والغزالي في المستصفى " وغيرهما ، أي هل يستلزم سقوط القضاء ؟ لا يستلزم بمعنى أنه لا يمتنع أن يقول الحكيم : افعل كذا ، فإذا فعلت أديت الواجب ، ويلزمك مع ذلك القضاء .

                                                      [ ص: 340 ] قال القاضي عبد الجبار في المعتمد " : وهذا هو معنى قولنا : إنه غير مجزئ ، ولا يعني به أنه لم يمتثل ، ولا أنه يجب القضاء فيه ، ولا يكون وقع موقع الصحيح الذي لا يقتضي ، هذا تحرير مذهب عبد الجبار في المسألة . وممن اعتنى به أيضا الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح العنوان " ، فقال : وتحرير الخلاف فيه أن الاكتفاء بفعل المأمور به هل هو من مدلول الأمر ومقتضاه أو هو من مجموع فعل المأمور به وأن الأصل عدم وجوب الغير ؟ وأما كونه إذا فعل المأمور به يبقى مطلوبا فما زاد فلا يصار إليه أصلا ; لأن الأمر انقطع تعلقه عما عدا المأمور به فلو بقي عليه شيء آخر من جهة الأمر لزم أن لا يكون منقطعا في تعلقه ، وفيه جمع بين النقيضين ، وهو محال . انتهى . وقد وقع في المسألة أمران : أحدهما : إطلاق إمام الحرمين وفخر الدين وأتباعه الخلاف في أن الامتثال هل يوجب الإجزاء وعبد الجبار لم يخالف في الإجزاء ، بالتفسير الأول ، وإنما خالف فيه بالثاني ، والخلاف في الأول بعيد ، والأول أقرب . قال الهندي : وعلى هذا ترجمة المسألة بما ذكروه لا يستقيم ; لأن الإجزاء عند المتكلمين ليس عبارة عن سقوط القضاء بالفعل ، فلا يلزم من كون الفعل سقوط القضاء ، بل ينبغي ترجمتها على ما قاله الغزالي وغيره بأن الأمر يقتضي وقوع الإجزاء بالمأمور به عند الفقهاء وقال المتكلمون : لا [ ص: 341 ] يقتضي ، فلا معنى للتخصيص على هذا ببعض المتكلمين كأبي هاشم وعبد الجبار ، فإن كل من قال : الإجزاء ليس عبارة عن سقوط القضاء على التفسير المتقدم يلزم أن يقول : لا يلزم من كون الفعل مجزئا سقوط القضاء ولعل الأقرب أن الخلاف إنما هو في سقوط القضاء لا في سقوط التعبد به ، وكونه امتثالا وطاعة ; لأن ذلك كالتناقض فيبعد وقوع الخلاف فيه ; لأن أدلتهم تشعر بذلك .

                                                      الثاني أنه يعني بقوله : لا يستلزمه أن فعل المأمور به لا يمنع من الأمر بالقضاء . وحاصله : أنه لا يدل على الإجزاء وإنما الإجزاء مستفاد من عدم دليل يدل على وجوب الإعادة ، ولا خلاف بين عبد الجبار وغيره في براءة الذمة عند الإتيان بالمأمور . واتفقوا على أن البراءة الأصلية اقتضت العدم السابق ، وعبد الجبار يقول : العدم اللاحق الكائن بعد الفعل مستفاد أيضا من البراءة الأصلية ، كالأعدام الكائنة قبل الفعل . وقد شبه القرافي هذا الخلاف بالخلاف في مفهوم الشرط ، كقوله : إن دخلت الدار فأنت حر ، فمن نفاه قال : عدم عتقه ما لم يأت بالمشروط مستفاد من الملك السابق ، ومن أثبته قال : هو مستفاد من ذلك ، ومن مفهوم الشرط أيضا . وظهر بهذا أن الخلاف لفظي ; لأنه أتى بالمأمور على وجهه ولا خلاف في أنه يمكن إيراد أمر ثان بعبادة يوقعها المأمور على حسب ما أوقع الأولى ; لأنه كاستئناف شرع وتعبد ثان . والنزاع في تسمية هذا الأمر الثاني قضاء للأول ، فالجمهور ينفونه ; لأن القضاء عندهم ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لما سبق وجوبه ، وهذا ليس كذلك ، [ ص: 342 ] وبهذا يندفع بناء من بنى عليه صلاة فاقد الطهورين إذا تمكن من أحدهما هل يعيد ؟ قال ابن الحاجب في مختصره الكبير " : إن أراد عبد الجبار أنه لا يمنع أن يرد أمر بعده بمثله فمسلم ، ومرجع النزاع في تسميته قضاء ، وإن أراد أنه لا يدل على سقوطه فساقط . وقال إلكيا الطبري : الخلاف في هذه المسألة لا يتحقق ; لأنه إن كان المراد لزوم الإتيان بمثله فهي مسألة التكرار ، والأول يجزئ عن الآخر لكن لم يستكمل ، وإن كان ; لأنه لم يقع الموقع فهو غير مجزئ بالاتفاق ، وقال : هذه المسألة مقلوبة بالمسألة الأخرى ، وهي كون النهي يدل على الفساد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية